في عقله وما ذخر له في الآخرة أكثر فارفض الدنيا فإن حب الدنيا يعمي ويصم ويبكم ويذل الرقاب فتدارك ما بقي من عمرك ولا تقل غدا أو بعد غد فإنما هلك من كان قبلك بإقامتهم على الأماني والتسويف حتى أتاهم أمر الله بغتة وهم غافلون فنقلوا على أعوادهم إلى قبورهم المظلمة الضيقة وقد أسلمهم الأولاد والأهلون
______________________________________________________
والرفض الترك « يعمى » أي بصر القلب من رؤية الحق كما قال تعالى : « فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ » (١) ويصم القلب أيضا عن سماع الحق وقبوله ، ويمكن أن يراد بها عمى البصر الظاهر لعدم انتفاعه بما يرى فكأنه أعمى ، وصمم السمع الظاهر لأنه لا ينتفع بما يسمع فكأنه أصم كما قال سبحانه : « خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ » (٢).
والبكم نسبته إلى الظاهر أظهر فإنه لما لم يتكلم بالحق وبما ينفعه فكأنه أبكم ، وإن أمكن حمله أيضا على لسان القلب ، فإن لسان الرأس معبر عنه حقيقة « ويذل الرقاب » لأنه موجب للتذلل عند أهل الدنيا لتحصيله أو يذلها لقبول الباطل من أهله من الذل بالكسر ، وهو ضد الصعوبة.
« فتدارك ما بقي » التدارك ليس هنا بمعنى التلافي ، ولا بمعنى التلاحق بل بمعنى الإدراك أي أدركه ولا تفوته كقوله تعالى : « لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ » (٣) أي أدركته بإجابة دعائه كما قاله الطبرسي (ره) ، ويحتمل أن يكون « ما بقي » ظرفا والمفعول مقدرا أي تلاف ما فات منك فيما بقي من عمرك ، لكنه بعيد.
« ولا تقل غدا » أي أتوب أو اعمل غدا « حتى أتاهم أمر الله » أي بالموت أو بالعذاب « بغتة » بالفتح ، وقد يحرك أي فجاءة « وهم غافلون » عن إتيانه « على أعوادهم » أي كائنين على السرر والتوابيت المعمولة من الأعواد « إلى قبورهم المظلمة الضيقة »
__________________
(١) سورة الحجّ : ٤٦.
(٢) سورة البقرة : ٧.
(٣) سورة القلم : ٤٩.