الكلف الحاصل في وجه القمر فهو أيضا برهان قاطع على صحة قول المسلمين في المبدء والمعاد ، أما دلالته على صحة قولهم في المبدء فلان جرم القمر جرم بسيط عند الفلاسفة فوجب أن يكون متشابه الصفات ، فحصول الاحوال المختلفة الحاصلة بسبب المحو يدل على أنه ليس بسبب الطبيعة بل لاجل أن الفاعل المختار خصص بعض أجزائه بالنور القوي وبعض أجزائه بالنور الضعيف ، وذلك يدل على أن مدبر العالم فاعل مختار لاموجب بالذات. وآخر (١) ما ذكره الفلاسفة في الاعتذار عنه أنه ارتكز في وجه القمر أجسام قليلة الضوء مثل ارتكاز الكواكب في أجرام الافلاك ، فلما كانت تلك الاجرام أقل ضوءا من جرم القمر لاجرم شوهدت تلك الاجرام في وجه القمر كالكلف في وجه الانسان. وهذا لايفيد مقصود الخصم لان جرم القمر لما كان متشابه الاجزاء فلم ارتكزت تلك الاجرام الظلمانية في بعض أجزاء القمر دون سائر الاجزاء ، وبمثل هذا الطرق يتمسك في أحوال الكواكب وذلك لان الفلك جرم بسيط متشابه الاجزاء فلم يكن حصول جرم الكواكب في بعض جوانبه أولى من حصوله في سائر الجوانب ، وذلك يدل على أن اختصاص ذلك الكواكب بذلك الموضع المعين من الفلك لاجل تخصيص الفاعل المختار الحكيم.
وأما قوله « وجعلنا آية النهارمبصرة » ففيه وجهان : الاول أن معنى كونها مبصرة أي مضيئة ، وذلك لان الاضاءة سبب لحصول الابصار ، فاطلق اسم الابصار على الاضاءة إطلاقا لاسم المسبب على السبب. والثانى قال أبوعبيدة : يقال قد أبصر النهار إذا صار الناس يبصرون فيه ، كقوله « رجل مخبث » إذا كان أصحابه خبثاء ، و « رجل مضغف » إذا كان دوابه (٢) ضغافا ، فكذا قوله « والنهار مبصرا » أي أهله بصراء « لتبتغوا فضلا من ربكم » أي لتبصروا كيف تتصرفون في أعمالكم « ولتعلموا عدد السنين والحساب » أعلم أن الحساب يبنى على أربع مراتب : الساعات
____________________
(١) في المصدر : واحسن.
(٢) في المصدر : اذا كان ذراريه صغافا.