٢٥٨ ـ توقف الوضع على تصوّر المعنى واللفظ
من الواضح انّه لا يتأتى الحكم على شيء إلاّ بعد تصوّره ، إذ انّ إثبات شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له في عالمه ، ولما كان وعاء الحكم هو الذهن فحينئذ لا بدّ من تصوّر موضوعه في رتبة سابقة عن جعل الحكم عليه.
وباتضاح هذه المقدمة نقول : انّ الوضع عبارة عن جعل لفظ دالا على معنى ، فالوضع بهذا حكم على المعنى كما هو حكم على اللفظ ، أي انّ المعنى واللفظ كلّ منهما يمثل جزء موضوع لقضيّة يكون المحمول فيها هو الوضع ، فكأنّما الواضع يشكل قضيّة هذه صورتها « اللفظ والمعنى يدلّ الاول منهما على الثاني » ، فاللفظ والمعنى يمثلان موضوع القضيّة و « يدلّ الاول منهما على الثاني » هو محمول القضيّة وهو عينه الوضع كما هو واضح.
فإذا كان الوضع هو الحكم على اللفظ والمعنى فهذا يقتضي ان يتصوّر الواضع اللفظ والمعنى في رتبة سابقة على جعل الحكم أي جعل الوضع ، وذلك لاستحالة جعل الاحكام قبل تقرّر موضوعاتها.
وبهذا البيان اتّضح المراد من توقّف الوضع على تصوّر المعنى واللفظ ، وبعد ذلك نقول انّ تصوّر المعنى الذي يتوقّف عليه الوضع على نحوين :
النحو الاول : ان نتصور المعنى ـ الذي نريد جعل اللفظ دالا عليه ـ بنفسه ، بحيث نستحضره في ذهننا كاملا ومن تمام حيثياته وبماله من سعة أو ضيق ، وذلك مثل ان نستحضر ونتصوّر معنى « زيد » بماله من مشخصات ثمّ نضع اللفظ بإزاء هذا المعنى المتشخّص والمحدد ، وكذلك مثل ان نتصور معنى « الإنسان » ـ بماله من حيثيات تميّزه عن سائر المعاني ، وبماله من سعة بحيث يقبل الصدق على أفراده ـ ثمّ نضع اللفظ بإزاء هذا المعنى المحدّد.