كالقيام والقعود وكإدراك المحسوسات عند من يجعل المدرك نفس الأعضاء والقوى لا النفس بواسطتها فالمراد به البدن وليس معنى هذا الكلام أنها لشدة تعلقها بالبدن واستغراقها في أحواله يغفل فيحكم عليها بما هو من خواص الأجسام كما فهمه صاحب الصحائف ليلزم كونها في غاية الغفلة.
الثالث : أنها لو كانت مجردة لكانت نسبتها إلى جميع البدن على السواء فلم يتعلق ببدن دون آخر وعلى تقدير التعلق جاز أن ينتقل من بدن إلى بدن آخر وحينئذ لم يصح الحكم بأن زيدا الآن هو الذي كان بالأمس.
ورد بأنا لا نسلم أن نسبتها إلى الكل على السواء بل لكل نفس بدن لا يليق بمزاجه واعتداله إلا لتلك النفس الفائضة عليه بحسب استعداده الحاصل باعتداله الخاص (١).
الرابع : النصوص الظاهرة من الكتاب والسنة تدل على أنها تبقى بعد خراب البدن وتتصف بما هو من خواص الأجسام كالدخول في النار وعرضها عليها وكالترفرف حول الجنازة وككونها في قناديل من نور أو في جوف طيور خضر وأمثال ذلك ولا خفاء في احتمال التأويل وكونها على طريق التمثيل ولهذا تمسك بها القائلون بتجرد النفوس زعما منهم أن مجرد مغايرتها للبدن يفيد ذلك.
وقد يستدل : بأنه لا دليل على تجردها فيجب أن لا تكون مجردة لأن الشيء إنما يثبت بدليل وهو مع ابتنائه على القاعدة الواهية معارض بأنه لا دليل على كونها جسما أو جسمانيا فيجب أن لا يكون كذلك.
ثم قال : واحتج القائلون بتجرد النفس بوجوه :
الأول : أنها تكون محلا لأمور يمتنع حلولها في الماديات وكل ما هو كذلك يكون مجردا بالضرورة أما بيان كونها محلا لأمور هذا شأنها فلأنها تتعقلها وقد سبق أن التعقل إنما يكون بحلول الصورة وانطباع المثال والمادي لا يكون
__________________
(١) هذا بناء على تجرد النفس منذ أول وجودها ، وأما بناء على تجردها بالحركة الجوهرية واتحادها بالبدن فالجواب يصير أوضح بكثير.