يستقبلن أبا جعفر إذا قعد في موضع الأخيار ، فلم يلتفت إليهنّ ، وكان هناك رجل يقال له مخارق ، صاحب صوت وعود ، وضرب ، طويل اللحية فدعاه المأمون ، فقال : يا أمير المؤمنين إن كان شيء من أمر الدنيا فأنا أكفيك أمره ، فقعد بين يدي أبي جعفر عليهالسلام فشهق مخارق شهقة اجتمع عليه أهل الدار ، وجعل يضرب بعوده ، ويغنّي ، فلمّا فعل ساعة وإذا أبو جعفر لا يلتفت إليه يميناً ولا شمالاً ، ثمّ رفع إليه رأسه ، وقال : اتّق الله يا ذا العثنون (١) قال : فسقط المضراب من يده والعود ، فلم ينتفع بيديه إلى أن مات ، فسأله المأمون عن حاله قال : لمّا صاح بي أبو جعفر فزعت فزعة لا أُفيق منها أبداً (٢).
وكشفت هذه الرواية عن محاولات المأمون لجرّ الإمام عليهالسلام إلى ميادين اللهو ، فقد عرض له جميع ألوان المغريات ، وكان الإمام آنذاك في ريعان الشباب ، فاعتصم عليهالسلام بطاقاته الروحية الهائلة ، وامتنع عمّا حرّمه الله عليه ، وقد أفسد عليهالسلام بذلك مخطّطات المأمون الرامية إلى إبطال ما تذهب إليه الشيعة من عصمة أئمتهم ، وكانت هذه الجهة ـ فيما نحسب ـ هي السبب في إضفاء لقب التقي عليه لأنّه اتّقى الله في أشدّ الأدوار ، وأكثرها صعوبة ، فوقاه الله شرّ المأمون (٣).
وفزع العباسيون كأشدّ ما يكون الفزع حينما علموا أنّ المأمون قد عزم على مصاهرة الإمام الجواد عليهالسلام فعقدوا اجتماعاً حضره كبارهم وذوو الرأي والمشهورة منهم ، وعرضوا فيما بينهم خطورة الأمر ، وما قد ينتهي إليه من نقل الخلافة والملك
__________________
١ ـ العثنون : اللحية ، أو ما فضل منها بعد العارضين أو طولها.
٢ ـ أصول الكافي : ج ١ ص ٤٩٤ ـ ٤٩٥.
٣ ـ البحار وغيره.