كي يكون شاهداً عليه ، ومن مواصفات هذا الشيء انه جعل الإنسان يسلّم بصورة فورية بربانية الله كما يظهر من طبيعة استخدام كلمة «بلى» والتي لا تستخدم إلاّ في الأمور المسلّم بها بديهياً ، على خلاف كلمة «نعم» التي تستخدم في أجوبة البراهين والاستدلالات ، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن استحضار هذا الشيء ينفي عن الإنسان الغفلة عما شاهده وشهد عليه ، كما تشير خاتمة الآية الشريفة.
والتساؤل الذي حيّر الكثير من الباحثين هو أين ذهب هذا الذي شاهده الإنسان وهو في «عالم الذر» فشهد عليه وهو مسلّم بربانية الله تعالى؟ ولم نسيه وقد طلب منه أن لا يغفل عنه؟ وإذا ما كان مقدر للإنسان أن ينسى ذلك فلم عرضت عليه معروضات عالم الذر؟ وهذه الحيرة جعلتهم وبسبب الفرار من تداعيات نظرية المثل الافلاطونية ، وأفكار رينية ديكارت عن المعارف الفطرية التي يولد الإنسان وهي معه ، (١) ينفون عالم الذر جملة وتفصيلاً ، أو ينفون صحة جملة كبيرة من الاحاديث الصحيحة التي وردت في هذا المجال ، (٢) فيما لجأ البعض إلى الهروب من الإشكال العلمي بادعاء الرمزية في الخطاب القرآني ، بالشكل الذي لا يحلّ أصل الإشكال ، فالرمزية قد تحلّ مشاكل اللفظ ودلالاته ، ولكنها تحتاج إلى قرينة لتدلّ على إن مريد اللفظ كان هدفه المجاز والاستعارة ، فالأصل هو ظهور اللفظ ، ومن دون قرينة تخرج اللفظ من ظهوره لا يمكن التحاكم إلى الرمزية خاصة إن انعدم
____________________
(١) انظر : فلسفتنا : ٥٣ ـ ٥٦ للمرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدسسره ، دار التعارف للمطبوعات ١٩٨٩ ط ١٥.
(٢) في ص ٢٢ من كتابه : «الميثاق والشهادة في القرآن» أوفع الشيخ محمد مهدي الآصفي نفسه في مأزق تضعيف هذه الروايات بلا موجب حقيقي لا ضابطة علمية صحيحة ، وأعجب منه اعتباره للروايات الواردة في هذا الشأن كونها عامية المنشأ ، علماً إن أغلبها من الصحيح الذي لا مرية في طرقه ، ولنا في هذا المجال وقفة يمكن القارىء أن يطلع عليها في كتابنا الذي نعدّه حالياً حول الميثاق الإلهي.