وحتى نعرف جهة الحق في هذا المجال علينا أن نعرف وجه الفرق بين الاثنين ، فالارادة التشريعية هي مراد المشرِّع من المشرَّع له ، كما يريد الأب من ابنه أن يؤدي فروضه المنزلية ، والطبيب من مريضه أن يأخذ الدواء ، وكقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١) ويلحظ على هذا النمط من الارادة أن المراد منه يمكن أن يتخلف ، فلا يؤدي الابن فريضته المنزلية ، ولا يأخذ المريض دواء الطبيب ، ولا تقام الصلاة ولا تؤتى الزكاة ، وسبب التخلف يعود إلى أن المريد ترك تنفيذ الارادة إلى المراد منه ، دون أن يؤثر على هذه الإرادة بنحو مباشر.
أما الإرادة التكوينية فيه تختلف عن التشريعية بكون الفاعل فيها هو المريد ، ولا دخل لارادة المراد فيها ، وهي لهذا لا تتخلف إن استطاع المريد أن يحقق مواصفات القدرة والقابل لما يريد ، وهي من سنخ قوله تعالى : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٢) وقوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (٣) حيث لا يمكن تصور تخلّف ما يريده الله سبحانه وتعالى ، وهي أيضاً من سنخ قوله عزَّ وجلَّ : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا) (٤) فهي من سنخ الارادة التكوينية ، ولكن بلحاظ عدم توفر عنصر القدرة والمكنة في المريد تخلّف تحقيق المراد ولم يتمكن من تحقيق إرادته ، ومثل قوله تعالى : (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
____________________
= الارادة هنا هي تكوينية إلا أنه حاول التنصّل مما يترتب على ذلك من التزامات عقائدية ، فراح ينقض ما بنى ، ووقع في تمحلات عديدة سنشير إليها في موضعها إن شاء الله تعالى.
(١) البقرة : ١١٠.
(٢) يس : ٨٢.
(٣) الحج : ١٤.
(٤) المائدة : ٣٧.