فصلت ما بين الآيتين ، وليس لنا في هذا المجال إلاّ ما جرى في حجة الوداع ، مما يعطي لحديث الثقلين دوراً حاسماً في هذا الصعيد ، وذلك لأن الحديث تحدث عن ملء الذي كشفت عنه الآية الأولى بشأن التبليغ ، ولا يمكن أن يكون القرآن هو صورة هذا الفراغ ، كيف؟ والآية قد نزلت في أواخر ما نزل من الآيات القرآنية ، والحديث تحدّث عن نفس خيارات الآية الثانية ، فلقد تحدّثت الآية عن تمام الدين ويأس الكافرين ، وتحدث الحديث عن عدم الضلال من بعد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم. فانتبه!!
وعليه : فالمطلوب هو جهة أخرى غير جهة القرآن هي التي كان الافصاح عنها في ذلك الوقت مقلقاً للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلا يمكن تصوّر قلق الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وخشيته من الناس بأنه ناجم من خوفه على سلامته الشخصية! فالرسول أجلّو أسمى وأشجع من أن تنزل به إلى هذا المستوى الهابط ، (١)
____________________
(١) لايملك المرء نفسه من أن ينظر بنظر الاشمئزاز والاستهجان لما روته عائشة كما جاء في عدد من جوامع الحديث عند أهل السنة قولها : ان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم سهر ذات ليلة وهي إلى جنبه قالت : فقلت : ما شأنك يا رسول الله؟ قال : ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة! قالت : فبينا أنا على ذلك إذ سمعت صوت السلاح فقال : من هذا؟ فقال : أنا سعد بن مالك ، فقال : ما جاء بك؟ قال : جئتك لأحرسك يا رسول الله ، قالت : فسمعت غطيط رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في نومه. مسند أحمد ٤٠ : ٦.
وهكذا الأمر مع حديثها المكرر الأكثر تداولاً بين أصحاب الجوامع الحديثية : كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية : (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فأخرج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم رأسه من القبة فقال لهم : يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله!. سنن الترمذي ٣١٧ : ٤ ح٥٠٣٧.
وهذا الأمر هو الذي حدا بعامة مفسري العامة إلى أن يهرعوا وراء التفسير العائشي ليصوّروا الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم بصورة الرجل الخائف المذعور من القتل والموت بيد الأعداء ، دون أن يفكّروا بالنتائج الإيمانية والفكرية الوخيمة المترتبة على هذا القول ، ومن دون أن يسمحوا لعقولهم بالقليل من التفكير خارج نطاق هيمنة عائشة =