تقدّم في المباحث السابقة أن الله سبحانه وتعالى حينما انتخب رسله واصطفى أنبياءه عليهمالسلام فإنه لم ينتخبهم ويصطفيهم بناء على حالة اعتباطية ، لأن ذلك خلاف العدل والحكمة الإلهيتين ، وانه حينما انتخبهم فبسبب ما كانت مؤهلاتهم الذاتية تشتمل عليه من خصائص ومقومات لم تتوفر في غيرهم ، وما كانت هذه المؤهلات لتعبر عن شيء بقدر تعبيرها عن انصياع ارادة هؤلاء الكامل لمقتضيات العهد الذي قطعوه مع الله سبحانه وتعالى وذلك كما نلحظه في الآية الكريمة : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً) (١) ، وهذا الميثاق الغليظ المعبّر عنه في هذه الآية الكريمة يشير إلى ظاهرتين في نفس الوقت ، فهو مرة يشير إلى أن هذا الميثاق الموسوم بالغلظة ما كان ليتقوّم إلا على أساس الطاعة المطلقة لله سبحانه وتعالى في ما أمرهم به ونهاهم عنه ، وثانية يشير إلى صدقهم في قبوله ، لأن عدم صدق قبولهم سيؤدي إلى انتفاء النبوة عنهم حتماً ، (٢) وهو أمر لم يحصل أبداً في تاريخ الأنبياء عليهمالسلام.
وهذا القبول ليس قبولاً قولياً يمكن له أن يختلف في دائرة العمل على طريقة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ) (٣) كيف؟ وقد جعلهم الله هم الحجج البالغة على خلقه
____________________
(١) الأحزاب : ٧.
(٢) وذلك على الطريقة المعبّر عنها في قصة بلعم بن باعوراء ولم يك نبياً خلافاً لما ورد في كتب العامة ، حيث عبرت الآية الكريمة بكلمة الانسلاخ عن انتفاء اللطف الإلهي الذي حظي به قبل أن يدخل الحسد والغرور إلىقلبه ، وهو الأمر الذي جعل قلبه مرتعاً للشيطان ، فغدا بذلك من الغاوين (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) [الأعراف : ١٧٥].
(٣) الصف : ٢ ـ ٣.