وتنتفي جملة وتفصيلاً إن كانت الحالة الفكرية في المجتمع من النضج ما يسمح للأفكار والمعتقدات أن تتنفس في الهواء الطلق دون حالة عنت فكري أو طائفي ، وهي بهذا الوصف ليست سلوكية سياسية واقعية تمارس ضمن حالات الطواريء فحسب ، بل هي مفهوم قرآني لا غبار في أصالته ، كما في قوله تعالى : ( لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وَإِلَى الله الْمَصِيرُ) (١) ، وشتّان ما بين التقية بهذا الوصف وبين العصمة المخصوصة بشريحة خاصة جداً من المجتمع التي تميّزت بمؤهلات وصفات استثنائية.
وأخطأ ثانية حينما رأى في الخشية دون تحديد ماهيتها نقيضاً للعصمة ، والحال ليس كذلك ، ومثاله يتضح فيما لو وضعنا المعصوم في بؤرة اجتماعية لا تطيق أفكاره ولا تتحمل صرامته في تطبيق مفاهيم العدالة الإلهية ، فهو إما أن يدفع بالمجتمع نحو حافة التصادم حين يصرّ على إبراز مخالفته له ويجهر بحالة التناقض بينه وبينهم فيفقد صفة الرحمة بهذا المجتمع الذي عصم لأجل هدايته وقيادته باتجاه التربية الإلهية ، لصالح أن
يعطي الغوغاء الاجتماعية الفرصة للنيل من مقامه ، وإما أن يتريّث الفرص وينتظر المستقبل عسى أن تجود فرص العيش المشترك بما يمكنه أن يدفع بعلمية الهداية الربانية نحو مواقع أكثر تقدماً في المجتمع ، وهذا ما أثبتته الواقعية الحياتية والتاريخ العالمي في كل حضاراته وأمكنة أحداثه ، ولهذا فمن الطبيعي أن يمارس المعصوم التقية في داخل المجتمع لو كان هذا المجتمع عصي الوعي بفكر المعصوم ، وإلّا لما اختص رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عباداته بعيداً عن الناس في غار حراء ، لما نزلت الآيات التي تتحدث عن هواجس الخيفة والحذر في سلوكيات الأنبياء عليهمالسلام ، وبطبيعة الحال فمن الخطل بمكان أن هذا الخوف بعنوانه جبناً ، فالمعصوم أشجع من أن يخاف
____________________
(١) آل عمران : ٢٨.