التراب في عين تلك الجمجمة ثم أخذ قبضة من التراب فوضعها في موضع الفم من تلك الجمجمة.
فلما رأى الملك ما صنع قل صبره وبلغ مجهوده ، فقال لذلك الرجل : قد علمت أنك إنما اجترأت على ما صنعت لمكانك مني وإدلالك علي ، وفضل منزلتك عندي ، ولعلك تريد بما صنعت أمرا ، فخر الرجل للملك ساجدا وقبل قدميه ، وقال : أيها الملك أقبل علي بعقلك كله فإن مثل الكلمة كمثل السهم إذا رمى به في أرض لينة يثبت فيها وإذا رمى في الصفا لم يثبت ومثل الكلمة كمثل المطر إذا أصاب أرضا طيبة مزروعة ينبته فيها ، وإذا أصاب السباخ لم ينبت ، وإن أهواء الناس متفرقة ، والعقل والهوى يصطرعان في القلب ، فإن غلب هوى العقل عمل الرجل بالطيش والسفه ، وإن كان الهوى هو المغلوب لم يوجد في أمر الرجل سقطة ، فإني لم أزل منذ كنت غلاما احب العلم وأرغب فيه وأوثره على الامور كلها ، فلم أدع علما إلا بلغت منه أفضل مبلغ ، فبينا أنا ذات يوم أطوف بين القبور إذ قد بصرت بهذه الجمجمة بارزة من قبور الملوك ، فغاظني موقعها وفراقها جسدها غضبا للملوك فضممتها إلي وحملتها إلى منزلي فألبستها الديباج ونضحتها بالماء الورد والطيب ووضعتها على الفرش وقلت إن كان من جماجم الملوك فسيؤثر فيها إكرامي إياها ، وترجع إلى جمالها وبهائها ، وإن كانت من جماجم المساكين فإن الكرامة لا تزيدها شيئا ففعلت ذلك بها أياما فلم أستنكر من هيئتها شيئا فلما رأيت ذلك دعوت عبدا هو أهون عبدي عندي فأهانها فإذا هي في حالة واحدة عند الاهانة والاكرام ، فلما رأيت ذلك أتيت الحكماء فسألتهم عنها فلم أجد عندهم علما بها ، ثم علمت أن الملك منتهى العلم ومأوى الحلم فأتيتك خائفا على نفسي فلم يكن لي أن أسألك عن شئ حتى تبدأني به واحب أن تخبرني أيها الملك أجمجمة ملك أم جمجمة مسكين فإنها لما أعياني أمرها تفكرت في أمرها وفي عينها التي كانت لا يملاؤها شئ حتى لو قدرت على ما دون السماء من شئ تطلعت إلى أن تتناول ما فوق السماء ، فذهبت أنظر ما الذي يسدها ويملاها فإذا وزن درهم من تراب قد سدها وملاها ، و