بكواكب السّدادِ ، ومرآة تُرِيه وَدَائِعَ القلوبِ ، وتكشفُ له عن أسرار الغيوب ، وإنْ حُدِّثَ عن التواضع كان أَوْلى بقول البحتري ممن قال فيه (١) :
دَنَوْتَ تواضُعاً وَعَلَوْتَ مَجْداً |
|
فَشَأْنَاك انْحِدَارٌ (٢) وارْتِفَاعُ |
كَذَاك الشَّمْسُ تَبْعُدُ أَنْ تُسَامَى |
|
ويَدْنُو الضَّوْءُ مِنْها والشُّعَاعُ |
فأما (٣) سائر آلات (٤) الفَضْلِ ، وأدوات (٥) الخير ، وخِصَالِ المجدِ فقد قَسَمَ الله (٦) له منها ما يُبَاهِي (٧) الشمس ظُهُوراً ، ويُجَاري القَطْرَ وُفُوراً ، وأَمَّا فُنُونُ الآدَابِ ؛ فهو ابن بَجْدَتِها (٨) ، وأخو جملتها وأبو عذرتها (٩) ، ومالك أَزِمّتِها ، وكأنما يُوحَى إليه في الاستئثار بمحاسنها ، والتَّفَرُّدِ ببدائعها ، ولله هو إذا غرس الدُّرَّ في أرض القِرْطاسِ ، وطَرَّزَ بالظلام رِداء النهار ، وأَلْقَت بِحَارُ خواطره جواهرَ البلاغة على أنامله ، فهناك الحُسْنُ بِرُمَّتِه ، والإِحسانُ بكلِّيتِه ، ولله ميراثُ التَّرَسُّل بأَجْمُعِه ، إذْ قد انتهت إليه اليوم بلاغةُ البُلَغَاءِ ، فما تُظِلُّ الخضراءُ ، ولا تُقِلُّ الغبراءُ في زمننا هذا أجرى منه في ميدانها ، وأحسن تصريفاً (١٠) لِعِنَانِها ، فلو كُنْتُ بالنجوم مُصَدِّقاً ، لقلتُ : قد تَأَنَّقَ عطارَدُ في تدبيره ، وقصرَ عليه معظم هِمَّتِهِ ، ووقَفَ في طاعته عند أقصى طاقته.
__________________
(١) هذان البيتان للبحتري من قصيدة مدح بها إبراهيم بن المدبر في ديوانه ٢ / ١٢٤٦ وفي الديوان : ( وبعدت قعراً ) بدل ( وعلوت مجداً ) وفي لباب الآداب ٢ / ٨٧ ـ ٨٨ أن الصاحب بن عباد كان يقول : « أمدح شعر البحتري ، قوله ... وذكر البيتين ».
(٢) في ( ط ) : انخفاض ، وكذا في ديوانه ٢ / ١٢٤٦.
(٣) في ( ط ) : ( وأمّا ).
(٤) في ( ط ) : ( أدوات ).
(٥) في ( ط ) : ( وآلات ).
(٦) في ( ط ) : ( الله تعالى ).
(٧) في ( ط ) : ( يباري ). وبإزائها في هامش ( ح ) : ( يباري ).
(٨) يعنون : العالم بها. قال أبو الطيب المتنبي :
سألتُ حبيبى الوصلَ منه دُعابَةً |
|
وأعْلَمُ أنَّ الوصل ليس يكونُ |
فمَاسَ دلالاً وابتهاجاً وقال لى |
|
برفقٍ مجيباً ( ما سألتَ يَهُونُ) |
انظر : المضاف والمنسوب للثعالبي ٢٦٨.
(٩) بإزائها في هامش ( ح ) : ( العُذْرَةُ : دَم البَكَارَةِ ) وفي المضاف والمنسوب ٢٤٩ « يقال : فلان أبو عُذْرة هذا الكلام ، أي هو الذي اخترعه ولم يسبقه إليه أَحَدٌ ، وهو مستعارٌ من قولهم : هو أبو عُذْرَتِها ، أي هو الذي افْتَضَّها ويقال : إن المرأة لا تَنْسَى أَبَا عُذْرَتِها ».
(١٠) في ( ط ) : ( تصريفاً منه ).