وكل ذلك يوجب أن يرجع فى دلالة القرآن إلى أن يعرف تعالى بدليل العقل وأنه حكيم لا يختار فعل القبيح ، ليصح (١) الاستدلال بالقرآن على ما يدل عليه (٢).
فإن قال : إن صح أن يستدل عليه تعالى بسائر أفعاله قبل أن يعرف ، فهلا جاز أن يستدل بالقرآن عليه قبل أن يعرف (٣)؟!
قيل له : قد بينا أن الكلام لا يدل على ما يدل عليه لأمر يرجع اليه ، وإنما يدل لكون فاعله حكيما ، ولذلك لم يدل كلام النبى صلّى الله عليه وسلم على الأحكام إلا بعد العلم بأنه رسول حكيم لم يظهر المعجز عليه إلا لكونه صادقا فى سائر ما يؤديه ، وليس كذلك دلالة الفعل (٤) على أن فاعله قادر ، ولأنه إنما يدل « لأمر يرجع (٥) إليه لا يتعلق باختيار مختار. وهو أن الفعل إذا صح
__________________
(١) فى الأصل : لم يصح.
(٢) هذه الجملة التى قدمها المؤلف رحمهالله بين يدى كتابه فى تفسير متشابه القرآن ، ليست ضرورية لتصحيح استدلاله فيما يأتى من الآيات على مذهبه فى العدل والتوحيد فحسب ، ولكنها ـ فيما يتضح ـ مسألة موضوعية لا بد من تقديمها بين يدى أى استدلال بالقرآن أو بحديث النبى صلّى الله عليه وسلم ، كما برهن عليها قاضي القضاة ، وقد قال معلق كتابه. (شرح الأصول الخمسة) ـ الإمام أحمد بن الحسين بن أبى هاشم ـ عند الكلام على استدلال القاضي رحمهالله بآيات من القرآن على أن الله تعالى لا يجوز أن يكون خالفا لأفعال العباد. إن القاضي (لم يورده على طريقة الاستدلال والاحتجاج ، فان الاستدلال بالسمع على هذه المسألة متعذر. لأنا ما لم نعلم القديم تعالى ، وأنه عدل حكيم ، لا يظهر المعجز على الكذابين ، لا يمكننا الاستدلال بالقرآن) ، ولا يدفع هذا بأنه تعالى إنما يعرف ضرورة فى دار الدنيا ، أو تقليدا ، لأن من مذهب المؤلف أن العلم بالله تعالى ليس ضرورة وإنما هو اكتساب يقوم على النظر والاستدلال. راجع شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ، بتحقيق الدكتور عبد الكريم عثمان ، طبع مصر ١٣٨٤ ، ص ٥١ ـ ٦٤ وص ٣٥٤ ـ ٣٥٥.
(٣) واضح من هذا أن القرآن فعل من أفعاله تعالى. وهذا ينبنى على مذهب المعتزلة فى نفى الصفات الأزلية. ولذا فان الاعتراض المذكور إنما يقع ممن يقول بمذهبهم فى القرآن. أما المخالفون فى ذلك فقد أفرد لنقاشهم فيه وفيما ينبنى عليه المسألة الرابعة.
(٤) فى الأصل : العقل
(٥) فى الأصل : لا مرجع.