والّذي يلفت النظر أنّ معاوية ما زالت حجته المزعومة لاستباحة دماء بني هاشم هي قتل عثمان ، وكأنهم هم الّذين قتلوه ، مع أنّهم أبعد الناس عن تلك التهمة وهم براء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب ، لكن معاوية لا يمنعه من الافتراء مانع ، فليس له من الدين وازع ، وقد مرّ أن كتب لابن عباس يوم كان في البصرة كتاباً ضمّنه نفس تلك التهمة ، وردّ عليه ابن عباس بجواب مرّ ذكره وقد رد التهمة عليه ، أمّا جوابه في هذه المرة فلا يخلو من ملاحظة تجعلنا في شك ممّا تزيّد فيه الرواة. في غضبه لعثمان غضباً لم يغضبه لأحد إلى آخر ما فيه من دسّ. تفضحه مواقفه في الجمل وصفين ضد المطالبين بدم عثمان فيما يزعمون ، ثمّ محاوراته مع معاوية وعمرو بن العاص وقد مرت بما فيها في جرأة وشجاعة فراجع.
لمّا فشل ولاة معاوية ـ مروان وسعيد بن العاص ـ في حمل الناس بالمدينة على بيعة يزيد ، رغم الترهيب والترغيب ، والّذي أقلق معاوية امتناع النفر الّذين ينظر الناس إليهم على أنّهم أهل الحل والعقد ، وهم أولى بالبيعة لهم من يزيد. وفي مقدمتهم بنو هاشم ورأسهم الإمام الحسين ( عليه السلام ) ثمّ العبادلة وفي مقدمتهم عبد الله بن عباس ، ولمّا وافته جوابات الكتب تحمل النذير بخلاف مستطير ، قرّر أن يذهب بنفسه إلى المدينة ، ويأخذ البيعة لابنه قهراً وقسراً ، ويبدو من حديث ابن قتيبة وابن أعثم إنّه هيأ الأجواء لاستقباله عن طريق واليه ورجاله ، قال :
« فقدم معاوية المدينة حاجاً فلمّا أن دنا من المدينة خرج إليه الناس يتلقونه ما بين راكب وماشي ...
قال : حتى إذا كان بالجرف ـ موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام ـ لقيه الحسين بن عليّ وعبد الله بن عباس.