لقد مرّ بنا قريباً أنّ ابن عباس قد كلّم الحسين ( عليه السلام ) ليلاً طويلاً ، ولم تكن تلك هي المرّة الأولى والأخيرة ، بل لقد تكررت الزيارات ، وتتابعت النصائح والمحاولات والمحاورات. وفي جميعها كان ابن عباس يبذل جهداً متواصلاً في صرف نظر الحسين ( عليه السلام ) عن التوجه إلى العراق ، لأن أهله قوم غدر ، قتلوا أباه وخذلوا أخاه ، ويخشى أن يسلموه عند الوثبة.
وقد قرأت له أكثر من محاورة تشابهت لغتها ، ولم تخرج في بيانها عن المحور الأساس هو الحيلولة دون خروج الحسين ( عليه السلام ) إلى العراق ، ولم يرد في شيء منها صدّه عن القيام ضد حكومة يزيد ، بل كان هو من رأيه القيام ضد حكومة يزيد ذلك الجبّار كما سيأتي نعته له بذلك في احدى محاولاته ومحاوراته.
ولا أستغرب منه ذلك الإصرار ، لأنّه كان على علم يقين بأن الحسين ( عليه السلام ) سيقتل في كربلاء بالعراق ، أخذ ذلك من حديث النبيّ المصطفى ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فهو أحد رواة حديث التربة الّتي أتى بها الروح الأمين إلى النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ).
فقد روى ابن كثير قال : « أخرج البزار في مسنده عن ابن عباس ( رضي الله عنه ) قال : كان الحسين جالساً في حجر النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال جبريل : أتحبه؟ فقال : وكيف لا أحبّه وهو ثمرة فؤادي : فقال : إنّ أمتك ستقتله ، ألا أريك من موضع قبره؟ فقبض قبضة ، فإذا تربة حمراء » (١).
وهو الّذي روى عن النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ما سمعه من خطبته عند رجوعه من سفر له وهو متغير اللون محمرّ الوجه ، فخطب خطبة بليغة موجزة وعيناه تهملان دموعاً
____________________
(١) البداية والنهاية ٦ / ٢٣٠.