من شتمهم ، وهؤلاء لم يكن ابن عباس بمنأى عنهم ، ولا كان مجهولاً عندهم ، فقد كانوا يأتونه مسترفدين فلا يفسح لهم رحابه ، بل ويعاقبهم بالمنع والتأنيب ، ولا ننسى خبر الشاعر الهجّاء ابن فسوة حين وفد عليه بالبصرة أيام ولايته ، فحرمه وحبسه ثمّ سيّره منها ، فتناوله بهجائه المقذع ، ممّا جعل الإمام الحسن ( عليه السلام ) وعبد الله بن جعفر يعطيانه ليسكت عن ابن عمهما ، إلاّ أنّ الهجّاء الخبيث لم يزل فيما يبدو على سجيته ـ كالطينة السوداء في خبث سجاياها ـ فدعا عليه ابن عباس فأخرس لسانه ، وقد مرّ حديثه فلا حاجة بنا إلى إعادته.
إذن فابن عباس بالرغم ممّا كان عليه من جود بالمال وسخاء طبع ، وقد مرت الشواهد قبل هذا ـ لم يكن يعطي ويمنع لغرض التمجيد والتكريم ليستمطر المديح والثناء ، بل كان يرى في المنع والعطاء ما يسمح له به الشرع ، فهو لا يأبه بشاعر إلاّ بقدر ما يسمح له به دينه ، لئلا يكون في إعطائه معونة على طاعة الشيطان ومعصية الرحمن.
والآن إلى نماذج من سلوكه الشخصي مع الشعراء ، ثمّ مع العلماء ، ثمّ مع سائر الناس.
إنّما قدمت ذكرهم على العلماء لأنّهم كما قلت شريحة من شرائح المجتمع تخشى بوادرهم ، وهم بعدُ ( فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ) (١) كما وصفهم القرآن الكريم ، وكانوا مع ابن عباس في مكة والمدينة يعيشون في مجتمع واحد ويجدون عنده ضالّتهم في تمييز أشعارهم ، فقد كانت مدرسته تضم في مناهجها
____________________
(١) الشعراء / ٢٢٥.