إنّها كلمة الحقّ الّتي أزهقت الباطل زهوقاً. أيّ جرأة هذه وأيّ شجاعة؟ تذل معاوية حتى يستكين ، فيحاول خداع نفسه قبل غيره بأنّ الأمر كان مزاحاً ، إنّما بن هند سرعان ما يقلب الحقّ باطلاً ، والجد هزلاً ومزاحاً.
وإذا كان معاوية في المرة السابقة مازحاً كما يزعم فلننظر إلى موقف له آخر أشدّ صرامة وصراحة ، وقد جمع له معاوية زبانيته ، ويبدو من صدر المحاورة ربما كانت أوّل لقاء له مع معاوية وزمرته بالشام.
فقد روى المدائني قال : « وفد عبد الله بن عباس على معاوية مرة ، فقال معاوية : لابنه يزيد ولزياد بن سمية وعتبة بن أبي سفيان ومروان بن الحكم وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن أم الحكم : انّه قد طال العهد بعبد الله بن عباس ، وما كان شجر بيننا وبينه وبين ابن عمه ، ولقد كان نصبه للتحكيم فدُفع عنه. فحرّكوه على الكلام لنبلغ حقيقة صفته ، ونقف على كنه معرفته ، ونعرف ما صُرف عنا من شبا حدّه ، ووري عنا من دهاء رأيه ، فربّما وصف المرء بغير ما هو فيه ، وأعطي من النعت والاسم ما لا يستحقه.
ثمّ أرسل إلى عبد الله بن عباس ، فلمّا دخل عليه واستقرّ به المجلس ، ابتدأه عتبة بن أبي سفيان فقال : يا بن عباس ما منع عليّاً أن يوجّه بك حكماً؟
فقال : أما والله لو فعل لقرن عمراً بصعبة من الإبل يوجع كتفيه مراسُها ، ولأذهلتُ عقله ، وأجرضته بريقه ، وقدحت في سويداء قلبه ، فلم يبرم أمراً ولم ينفض تراباً إلاّ كنت منه بمرأىً ومسمع ، فإن نكثه أرمت قواه ، وإن أرمه فصمت عراه ، بغرب مقولٍ لا يفلّ حدّه ، وأصالة رأي كمتاح الأجل ، لا وزر فيه ، أصَدّعُ به أديمه ، وأفلّ به شبا حدّه ، واشحذ به عزائم المتقين ، وأزيح به شُبَه الشاكين.