ولعل أشد أثر تلك المواقف على معاوية ، وأكثرها إيلاماً له ما كان أشدها جرأة وتحدياً ، حتى بلغ امتلاك ابن عباس لرصيد شعبي في الشام كوّنه في وفاداته ، فصار يهدد كيان معاوية في عاصمة ملكه ، فقد كان يجلس في الجامع فيحدث الناس بفضائل الإمام ، وينقد معاوية ، فنفذ إلى أعماق سامعيه بحديثه ، واحتل مكانة في نفوسهم توازي هيبة معاوية في سلطانه.
وأخاله اتخذ من السفر إلى الشام وطول المكث فيها وسيلة من وسائل الإعلام المضادّ للإعلام السلطوي الكاذب ، وغزواً فكرياً ثقافياً في عقر داره ، وبذلك تمكن من أداء رسالته في نصرة الحقّ وإنكار الباطل. فلقد حدث المؤرخون عن مدى استقطابه جماهير الشاميين حتى التفوا حوله يحضرون مجلسه ويستمعون حديثه ، ما تبيّن لمعاوية أثر ذلك في خلوّ مجلسه منهم. فضاق به ذرعاً.
ولقد بلغ الحسد والحقد من معاوية في نفسه مبلغاً لم يكتمه في موقف آخر فقال لابن عباس أرحني من شخصك شهراً ، وذلك حين بلغ من ازدراء ابن عباس بمعاوية أنّ وصمه أمام أهل الشام بميسم عاره ، وذكّره بماضي أصله الأسود وشناره ، والّذي كان في ذمة جده وجواره ، فقال له كلمة أخرجته من اهابه وانقطع عن جوابه فلم يملك سوى كلمته الرعناء.
فلنقرأ ما رواه الجاحظ في المحاسن والأضداد (١) ، والبيهقي في المحاسن والمساوي (٢) ، وغيرهما ، قالا :
____________________
(١) المحاسن والأضداد / ١١٦ ط المعاهد بمصر سنة ١٣٥٠.
(٢) المحاسن والمساوي ١ / ٦٧ ط النعساني.