فمن هذه المحاورة والّتي قبلها بدت بدايات مريبة توجّس منها ابن عباس خيفة على خروج الأمر من معدنه في بني هاشم ثمّ لا يعود إليهم إلاّ في آخر الزمان ، فأجاب بما وسعه البيان فأسكت خصمه. ولكن بقيت بارقة أمل في وثيقة الصلح وعودة الأمر إلى الإمام الحسن ( عليه السلام ) بعد موت معاوية ، لكن معاوية كما مرّ تعريفه من قدماء ومحدثين ، لم يكن يؤمن بمثُل أو قيم ، ولا يرى لوثيقة الصلح أي اعتبار لديه ، وقد أعلن رفضها قولاً ، وبدأ تطبيق الرفض عملاً ، حيث صار همّه إزالة العناصر الّتي يتطلع إليها الناس كقادة من أولى الحجى والنُهى ، وفي مقدمتهم الإمام الحسن ( عليه السلام ) صاحب الحقّ الشرعي ، تمهيداً لأخذ البيعة لابنه يزيد ، واستشعر ابن عباس من خلال تلك المحاورات بنوايا معاوية السيئة ، فصار يولي اهتمامه في حواره حول المفاضلة بين ولاية بني أمية وبني هاشم ، ومن الطبيعي كان المستمعون لكل المحاورات يروون لمن لم يحضر ما جرى وما دار ، ولا شك أنّ لتلك المحاورات أثرُها ـ سلباً أو ايجاباً ـ في النفوس ، وبالتالي يستفيد منها كلّ من المتحاورَين. وقد مرّت بنا بعض المحاورات حول المفاضلة.
وهلم الآن فاقرأ لوناً جديداً لا يخلو من مساومة خفية وتهديد أخفى رواه ابن عبد ربه عن ابن الكلبي قال : « أقبل معاوية يوماً على ابن عباس ، فقال : لو وليتمونا ما أتيتم الينا ما أتينا اليكم من الترحيب والتقريب ، وإعطائكم الجزيل واكرامكم على القليل ، وصبري على ما صبرتُ عليه منكم ، وإنّي لا أريد أمراً إلاّ أظمأتم صَدرَه ، ولا آتي معروفاً إلاّ صغّرتم خَطرَه ، وأعطيكم العطية فيها قضاء حقوقكم ، فتأخذونها متكارهين عليها ، تقولون قد نقص الحقّ دون الأمل ، فأي أمل بعد ألف ألف أعطيها الرجل منكم ، ثمّ أكون أسرّ بإعطائها منه بأخذها ، والله