وأضْربُ لذلك مثالا واحداً على ذكاء البخاري وفطنته من هذه النّاحية ، ولذلك أعتقد شخصيّاً بأنّ أهل السنّة من الأسلاف فضّلوه وقدّموه لهذه الخاصيّة التي يمتاز بها على غيره ، فهو يحاول جهده أن لا يتناقض بأحاديث تخالف مذهبه الذي اختاره وتبنّاه.
فقد أخرج في صحيحه من كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها ، باب هبة الرّجل لامرأته والمرأة لزوجها :
قال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله ، قالت عائشةُ رضي الله عنها : لما ثَقُلَ النّبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فاشتدّ وجعُهُ ، استأذن أزواجه أن يُمرضَ في بيتي فأذِنَّ لَهُ ، فخرجَ بينَ رجُلينِ تَخُطُّ رجلاَهُ الأرضَ ، وكانَ بينَ العبّاسِ وبين رجل آخَرَ ، فقال عبيد الله : فذكرتُ لابن عبّاس ما قالتْ عائشةُ ، فقال لي : وهلْ تدري من الرَّجُلُ الذي لم تُسَمِّ عائشة؟ قلتُ : لا! قال : هو علىّ بن أبي طالب.
وهذا الحديث بالضبط أخرجه ابن سعد في طبقاته بسند صحيح في جزئه الثاني في صفحة ٢٩ ، وكذلك صاحب السيرة الحلبية ، وغيرهم من أصحاب السنن وفيه : « إنّ عائشة لا تَطيبُ له نفساً بخير » (١).
والبخاري أسقط هذه الجملة التي يستفاد منها أنّ عائشة تبغض عليّاً ولا تَطيق ذكر اسمه ، ولكن فيما أخرجه كفاية ودلالة واضحة لمن له دراية بمعارض الكلم; وهل يخفى على أىّ باحث قرأ التاريخ ومحّصة ، بغض أُمّ
____________
(١) مسند أحمد ٦ : ٢٢٨ ، عنه الألباني في إرواء الغليل ١ : ١٧٨ وصحّحه ، الطبقات الكبرى ٢ : ٢٣٣ ، السيرة الحلبية ٣ : ٤٨٦.