وأنت إذا تأملت حديث رزيّة الخميس الذي أشرت إلى إطاره العام لوجدت في قول النبيّ صلىاللهعليهوآله : « هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدي أبداً ». أمراً في غاية الأهميّة ، وهذا الأمر تنبّه له الخليفة عمر.
فقد فهم من كلام النبيّ صلىاللهعليهوآله ، أنّه يريد أنْ يكتب وصيّة الحكم من بعده لعليّ عليهالسلام ، فتصدّى لمنعه من كتابة تلك الوصيّة ، ليفسح المجال لنفسه ويتهيىء ويتمكّن من الاستيلاء على السلطة.
وحديث الثقلين (١) ، وحديث رزيّة الخميس المروي عن ابن عباس في البخاري وغيره (٢) ، يتفقان في أنّ المانع من ضلال الأمة هما متمسّكان اثنان فقط ، بل هو في حقيقته متمسّك واحد ، لأنّ الكتاب العزيز لا يستطيع أنْ يقوم بنفسه في الأمّة ، فتعيّن وجود من ينطق عنه صدقاً وعدلاً ، وهم أهل بيت النبيّ صلىاللهعليهوآله الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، أولئك الذين أحصى الله تعالى فيهم علوم نبيّه صلىاللهعليهوآله ، ووصفهم في القرآن بالصادقين ، والأبرار ، ومن عندهم علم الكتاب ، وغير ذلك من الأوصاف التي لا تنصرف إلّا إليهم ، ولا تتّفق إلّا معهم ، ولا تليق إلّا بهم.
قلت : فما علّة تدوين القرآن وفق الرؤية المذهبيّة لأهل السنّة ؟
قال : إنّه من رداءة القول الادّعاء بأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله قد غادر الدنيا ، وكتابه مبثوث في صدور الناس ، ولم يلتفت لا هو ولا خالقه جلّ شأنه وتعالت قدرته إلى ناحية حفظه ; لذلك فإنّ أهل بيت النبيّ صلىاللهعليهوآله يقولون عكس ذلك ، فالقرآن مجموع عندهم ومدوّن لديهم ، ولا أدلّ على ذلك من أنّ هناك عدد من الصحابة يمتلكون مصاحف ، والنبيّ صلىاللهعليهوآله حيّ يرزق ، وكان الكتبة منهم كابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي بن كعب ، يواكبون نزول الوحي بكتابة كلّ جديد في موضعه ، الذي يحدّده
_________________
(١ و ٢) تقدم في حلقات سابقة.