مع تشعبّ المجتمع الأوّل وتكاثر أفراده وتعمّق الفروقات وبروز التنوّعات وتعدّد الميولات والأذواق بدأت الخلافات تشبّ بين أفراد المجتمع الإنساني وتهدّد وحدته ومساره الصحيح ، واحتاج الناس لأجل تصحيح المسيرة إلى عامل خارجي فكانت النبوات التشريعية التي جاءت لحلّ الخلافات ، وكانت إيذاناً ببدء مرحلة جديدة : مرحلة التشتّت.
يقول الله تعالى : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [ البقرة ].
الإنسان اجتماعي بالفطرة ، فالفطرة تدعوه للتعاون والاجتماع ، وهذه الفطرة كما تدعوه للاجتماع تدعوه لتقديم حاجاته ومصالحه الفردية ، فكما أنّ الفطرة دعته للاجتماع والائتلاف كانت هي السبب في الخلافات.
يقول صاحب الميزان في تفسير الآية : ـ إنّ الإنسان ـ وهو نوع مفطور على الاجتماع والتعاون ـ كان في أوّل اجتماعه أُمّة واحدة ثمّ ظهر فيه بحسب الفطرة الاختلاف في اقتناء المزايا الحيوية ، فاستدعى ذلك وضع قوانين ترفع الاختلافات الطارئة ، والمشاجرات في لوازم الحياة فألبست القوانين الموضوعة لباس الدين ، وشفّعت بالتبشير والإنذار : بالثواب والعقاب ، وأصلحت بالعبادات المندوبة إليها ببعث النبيين ، وإرسال المرسلين ، ثمّ اختلفوا في معارف الدين أو أمور المبدأ والمعاد ، فاختلّ بذلك أمر الوحدة الدينية وظهرت الشعوب والأحزاب ، وتبع ذلك الاختلاف في غيره ، ولم يكن هذا الاختلاف الثاني إلا بغياً من الذين أوتوا الكتاب ، وظلموا عتواً منهم بعدما تبيّن لهم أصوله ومعارفه وتمّت عليهم الحجّة ، فالاختلاف اختلافان : اختلاف في أمر الدين مستند إلى بغي الباغين دون فطرتهم وغريزتهم ، واختلاف في أمر الدين ، وهو فطري وسبب لتشريع الدين ـ (١).
__________________
١ ـ محمّد حسين الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن ، ج ٢ ، ص ١١٣.