وتعطّل هذه التصوّرات التكاليف الإسلامية في عصر الغيبة ، وتختزل رسالة المؤمن في بوتقة ضيّقة جدّاً ( الدعاء ، التقيّة ، صون اللسان ، حفظ النفس ) ، وتلغي من حساباته مفاهيم عقائدية وسلوكية هامّة كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد ، ومحاربة الفساد والدعوة إلى الله وإقامة الدولة الإسلامية ....
ولكن ما هو منشأ هذه التصوّرات الخاطئة؟
يمكن أن نرجع المنشأ إلى عوامل ثلاثة :
العامل الأوّل : التفسير الحرفي لبعض النصوص : حيث نجد أحاديث كثيرة تحدّثنا عن التقية زمن الغيبة : ـ فمن ترك التقية قبل خروج قائمنا فليس منّا ـ (١) ، وعن حفظ اللسان والمحافظة على النفس : ـ عن جابر سألت أبا عبد الله عليهالسلام : يا ابن رسول الله فما أفضل ما يستعمله المؤمن في ذلك الزمان؟ قال حفظ اللسان ولزوم البيت ـ (٢).
إنّ التفسير الحرفي لهذه النصوص وغيرها هو الذي جعل بعضهم يحتجّ بها لإهمال العمل الاجتماعي والتكاليف الرسالية ، ولكن تلك الحجّة باطلة؛ لأنّ ـ الأخبار وإن كانت ذات مدلول واسع إلا أنّها مقيّدة لا محالة بقيد موارد وجوب العمل؛ إذ مع وجوبه تكون التقية والعزلة وكفّ اللسان عصياناً وانحرافاً ـ (٣).
العامل الثاني : النزعة الفردية في فهم النصوص : باستقرائنا للنماذج السابقة يتبيّن لنا أنّها تعالج الموقف من زاوية الفرد المؤمن ، وتهمل كلياً موقع الأُمّة ومسؤوليتها وما تحتّمه علاقتها بإمامها.
وهذه النزعة لم يَخْلُ منها عامّة الفقه الإسلامي ككل ، الذي طغى عليه هذا الطابع فصار فقها عملياً للفرد لا للمجتمع ، وصار يقدّم الحلول للقضايا الشخصية الفردية حتّى في باب المعاملات ، فضلاً عن العبادات والأحوال الشخصية ، وغاب البعد الاجتماعي عن
__________________
١ ـ محمّد باقر المجلسي ، بحار الأنوار ، ج ٧٢ ، ص ٤١١.
٢ ـ م س ، ج ٥٢ ، ص ١٤٥.
٣ ـ محمّد صادق الصدر ، تاريخ الغيبة الكبرى ، ص ٤١٣.