يقول اليعقوبي : ـ إنّه لما انقضى كتابنا الأوّل اختصرنا فيه ابتداء كون الدنيا وأخبار الأوائل من الأمم المتقدّمة من العلماء والرواة وأصحاب السير والأخبار والتأريخات ، ولم نذهب إلى التفرّد بكتاب نصنِّفه ونتكلّف منه ما قد سبقنا إليه غيرنا ، لكن قد ذهبنا إلى جمع المقالات والروايات؛ لأنّنا قد وجدناهم قد اختلفوا في أحاديثهم وأخبارهم ... وزاد بعضهم ونقّص بعض ، فأردنا أن نجمع ما انتهى إلينا مما جاء به كلّ امرئ منهم ـ (١).
لم تتوقّف البحوث التاريخية عند الأفق الأوّل من التدوين والنقل؛ بل تطورت وظهرت اتجاهات لا تكتفي بمجرّد سرد الأحداث؛ بل تخطّت ذلك إلى تمحيص الأخبار وتعليل الوقائع ، واستبدال التسلسل الزمني بالتسلسل السببـي والعلّي ، وهذا ما يُعبّر عنه بالتاريخ النقدي أو التاريخ العلمي.
ولا يخفى أنّ هذا الأخير يعتمد أساساً على التاريخ النقلي ، فهو مادّته الأساسية ومستنده فيما يفرزه من نتائج.
وهذا النزوع إلى التاريخ النقدي والعلمي نجد ملامحه بدأت تتضح مع المسعودي ، حيث نراه طرق باب التنظير في هذا المجال ، وسعى إلى تقديم رؤية حضارية للتاريخ ، وأبرز في عرضه للأحداث التاريخية الأسباب والعلل المباشرة والعامة (٢).
كما نلمح هذه النزعة عند ابن خلدون في تعريفه للتاريخ : ـ في ظاهره لا يزيد على إخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأُوَل ، تنمو فيها الأقوال وتضرب فيها الأمثال وتعرف بها الأندية إذا غصّها الاحتفال وتؤدّي لنا شأن الخليقة كيف تتقلّب بها الأحوال ، وفي باطنه نَظَرٌ وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق ، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق ، فهو لذلك أصيل في الحكمة ، عريق وجدير بأن يعدّ في علومها وخليق ـ (٣).
__________________
١ ـ أحمد بن أبي يعقوب ، تاريخ اليعقوبي ، ص ٥.
٢ ـ محمود إسماعيل ، إشكالية تفسير التاريخ عند المؤرخين المسلمين الأوائل ، مجلة عالم الفكر ، ع٢٩ ، أبريل٢٠٠١ ، المجلس الوطني للثقافة في الكويت ، ص ٤٦.
٣ ـ عبد الرحمن بن خلدون ، المقدّمة ، ص ٣.