لقد كشف سقوط المعسكر الشرقي وانحلاله ، وتفكّك الاتحاد السوفيتي أنّ جحيماً كانت تحترق فيه جموع الجماهير وراء ستار حديدي أحمر وأنّ لا جنّة على الأرض كما يدّعون ، وأنّ الاشتراكية ومن ورائها الشيوعية أكذوبة كبرى لا تحمل للناس الأمل في الخلاص.
من عجائب هذا العصر أن يطلع علينا في نهاية القرن العشرين ، وبعد حرب الخليج الثانية ، وانفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على العالم ، فرنسيس فوكوياما مبشّراً بل مدعياً نهاية التاريخ ، وأنّ الليبرالية الرأسمالية أرقى مراحل التاريخ البشري.
نعم هذه الليبرالية الرأسمالية التي طالما استعبدت الشعوب وامتصّت دماءها ومقدّراتها وحطّمت آمالها في الرقي والتقدّم ، هاهي تبعث نبيها ، بل مسيلمها الكذّاب يبشّر بالخلاص على يد الليبرالية الرأسمالية!
يلبس فوكوياما مسوح الرهبان ويطلع علينا مشفقاً : ... أنّي ارتضيت لكم الديمقراطية الليبرالية سبيلاً؛ لأنّها قدركم الذي لا مفرّ منه ، لأنّها الأيدلوجية التي استمرّت إلى نهاية القرن العشرين ، ولا وجود لأي أيدلوجية قادرة على منافستها ... يقول فوكوياما : ـ ليست المحاولة الليبرالية هي التي تبدو منتصرة بقدر ما هي الفكرة الليبرالية أي أنّه بالنسبة لقسم كبير جدّاً من العالم ليست هناك أيدلوجية تدّعي الشمولية حالياً تكون في موقع يمكنها من منافسة الديمقراطية الليبرالية ـ (١).
ويسوغ فوكوياما تلويحه بنهاية التاريخ بأنّه ما دمنا اكتشفنا أنّ التاريخ لا يختزن داخله قابليات للتطوّر الخطي والتقدّم إلى الأمام ، فإنّ الأيدلوجية السائدة حينئذٍ هي التي تصنع الإنسان الأخير ، ـ فالتاريخ لم يكن تلاحقاً أعمى للأحداث؛ بل كان ذا
__________________
١ ـ فرنسيس فوكوياما ، نهاية التاريخ والإنسان الأخير ، ص ٢٣.