لقد ركّز القرآن على هذا المستقبل البعيد ( النشأة الآخروية وعوالم القيامة ) وخصّص مئات الآيات القرآنية ، كما تحدّث عن المستقبل القريب ونهاية مطاف المسيرة في الدنيا : قيام مجتمع الصالحين ، ولكنّنا نراه يركّز أكثر على المستقبل البعيد.
ومن مظاهر الشمولية في النظرية القرآنية إقرارها بكلّ الأطراف الفاعلة في الساحة التاريخية وعدم إقصاء أي طرف أو عنصر فاعل ، خاصّة الغيب ودوره في صنع الحدث التاريخي وتوجيه الإنسان نحو الغايات السامية التي خلق لأجلها.
لقد التفت الفكر الإنساني إلى الخطأ الفادح الذي وقعت فيه التفسيرات الوضعية للتاريخ بإلغائها عنصر الغيب وإنكارها لعامل السماء في مسيرة الأرض ، وتغييبها لله تعالى بحجّة ـ الموضوعية ـ و ـ العلموية ـ ، بدعوى رفض الأسطورة والتفاسير الأسطورية ونبذ التفاسير اللاهوتية ، إلا أنّها باسم المنهج العلمي تكون قد جانبت الواقعية ، ولم تقدّم سوى فرضيات لا تتعدّى أذهان أصحابها ، فالواقعية تقتضي الاعتراف بحضور الله تعالى في التاريخ وهيمنة الغيب وإحاطته بالطبيعة والإنسان والمسار والمصير.
حينما تتحدّث الرؤية القرآنية عن التاريخ ، سُننه ، مراحله ، غاياته ، بداياته ، نهاياته ... ، هي لا تنسج خيوط فرضيات عاشها صاحبها كخيال علمي أو تصوّرات يبتدعها للمسيرة وأبعادها؛ بل هي صورة عن واقع الحركة ، أي أنّ النظرية القرآنية تتحدّث عن الواقع كما هو ، لا كما يتراءى لنا ، فالواقعية هي السمة البارزة لهذه المدرسة الإسلامية.
وهي نقطة قوّة تمتاز بها عن غيرها من النظريات التي تستند إلى جهود بشرية قاصرة عن الإحاطة بكلّ معطيات التاريخ وأبعاده.
فاستناد هذه الرؤية إلى الوحي وإلى مَعين علم لا يتسلّل إليه الخطأ ، بمعنى آخر إلى مصدر متعال يحيط بالزمان والمكان والإنسان ، يعطي لهذه الرؤية مصداقية وواقعية أكثر من التفسيرات الأخرى التي ينطلق أصحابها من داخل التاريخ من مكان ما في زمان ما ليحاول أن يفسّر الحركة والتاريخ ككلّ.