أمرين : ـ لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين ـ. فما تقدّمه فلسفة التاريخ من خطوط للدور الإنساني في صناعة الحضارة وتحديد المصير يمثّل بشكل ما : تفصيلات هذه القاعدة ـ لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين ـ تفصيلات تلتصق بالبعد الاجتماعي والتاريخي.
لقد مكّنت الميزات التكوينية ، التي حازها الإنسان من قوام خاص ، وعقل مفكّر ، وميول فطرية ، وقابليات نفسية ، صاحبها من أداء دور مميّز على الأرض ، وجعلت منه الكائن الحي الوحيد القادر على بناء الحضارات ، وتشييد نمط حياتي يتجاوز أفق المجاميع الحيوانية الأخرى التي قد تعيش في حياة اجتماعية ولكنّها غير قادرة على تخطّي النمط الغرائزي التي طبعت عليه منذ القدم.
هذا التفرّد يعود إلى ما يتميّز به الإنسان من فكر وإرادة حرّة ، وقد أشار القرآن الكريم إلى هاتين الحقيقتين في مواطن عديدة كما في قوله تعالى : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَ ؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) [ البقرة ].
( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ) [ الأحزاب ].
هذه القابليات الفكرية التي غرست في الإنسان منذ فجر تاريخه بتعليم آدم الأسماء ، وهذه الإرادة والحرّية والقدرة على الرفض والتمرّد والعصيان التي تحكم جهازه النفسي هما السرّان الكامنان وراء تفرّد هذا الكائن ، وقدرته على صنع التاريخ والحضارة.
ويمكن أن نستنتج المعادلة التالية :
عقل + حرية + الشرائط المادّية الموضوعية = حضارة
ومنهج العقل وأسلوب ممارسة الحرية تحدّدان أساساً نمط الحضارة ، أمّا الإطار المادّي التقني والفنّي والمعيشي ليس سوى القشرة الخارجية لها.
والدين والتجربة عاملان أساسيان لتشكيل العقل ، والإيمان والسمو في الأهداف يفرزان الاختيارات الصائبة ، وفعالية الإنسان في التاريخ تتسع بمقدار ما تتعمّق القاعدة الفكرية والنفسية له؛ لأنّ النظرية القرآنية ترى أنّ حركة البناء تنطلق دوماً من الداخل إلى الخارج ، وأنّ التغيير الاجتماعي والتاريخي لا يمكن أن يحقّق أهدافه كاملة إلا إذا استند على