والطبيعة ليست إطاراً مادّياً لحركة الإنسان وفضاءً مكانياً لمسيرته وصيرورة حضاراته فقط ، كما يعتقد بعضهم ، حيث يتعاطى معها كعنصر حيادي تجاه مسيرة الإنسان وطبيعة النظم والرؤى التي يؤمن بها ويتحرّك وفقها ، بل إنّ الطبيعة في المنظور القرآني تتفاعل إيجاباً وسلباً مع صلاح العمل الإنساني وعدم صلاحه واستقامة السلوك الإنساني وعدم استقامته ، فالأرض تفجّر خيراتها والسماء تنزل قطرها إذا أقام المجتمع نظمه وقوانينه على قاعدة العدل والمساواة بمنأى عن الظلم والاستغلال ، ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ) [ الجن ].
( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ) [ الطلاق ].
وهذا المبدأ يفسّر لنا طبيعة الرفاه الاقتصادي الاستثنائي الذي يعرفه مجتمع الظهور حيث لا يوجد في المجتمع فقير محلّ للزكاة ، والمال يحثوه الإمام حثواً ، ولا يعدّه عداً ، ولا تترك السماء قطراً إلا أنزلته والأرض نبتاً إلا أنبتته كما سنفصّل ذلك في الفصل الرابع إن شاء الله تعالى.
تهمل دراسات فلسفة التاريخ عادة هذا العامل بسبب الاستغراق في النظرة الفردية للإنسان وحركته في الزمن.
ويُقصد بالنظم الاجتماعية السياسية : الصيغ الحياتية التي تنظّم حياة الناس في علاقات الإنسان بأخيه الإنسان في مختلف المجالات ( الأسرية ، الاقتصادية ، السياسية )
لقد أكّد القرآن على الروح الجماعية والمسؤولية المجتمعية ، ومن هنا كان الحديث عن عذاب الأُمّة وأجل الأُمم ، ومصير الأُمم ، وعقاب الأُمم ، وليس ذلك إلا لأنّ للمجتمع والأُمّة روح واحدة تصحّح هذه المسؤولية وتسوّغ هذه التوصيفات.
والنظم الاجتماعية السياسية هي التي تشكّل هذه السمة الجماعية وتصبغ هذه الروح بطابعها الخاص ، ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [ البقرة ].