وكنموذج لتأثير الاختلاف الفكري في إنشاء المذاهب وتعدّديتها :
الانقسام الذي حصل بين علماء المسلمين أواخر القرن الأوّل الهجري إلى أهل الحديث وأهل الرأي فقد كان الفقهاء في الحجاز يعتمدون النصوص والأحاديث كمصدر أساسي لاستنباط الأحكام الشرعية ولا يعطون اعتباراً كبيراً للقياس والرأي بعكس فقهاء العراق القائلين بالقياس والرأي.
وكان أهل الحديث يعيبون أهل الرأي بأنّهم يتركون الأحاديث لأقيستهم ، والدين لا يقاس بالرّأي ، وإنّما سمّوا أهل الرّأي لأنّ عنايتهم بتحصيل وجوه من القياس والمعنى المستنبط من الأحكام وبناء الحوادث عليها ، وربّما يقدّمون القياس الجلي على آحاد الأخبار ، وطريقتهم أنّ للشريعة مصالح مقصودة التحصيل من أجلها شرعت ، فجعلوا هذه المصالح أصلاً من أصول الأدلّة إذا لم يجدوا نصّاً في الكتاب والسنّة الصحيحة عندهم ، وقد كانت قليلة العدد لبعد العراق عن موطن الحديث.
وأمّا أهل الحديث فلم يجعلوا للرأي والقياس في استنباط الأحكام هذا المحل ، واتسعت شقة الخلاف واحتدم النزاع وافترق أهل الفتيا إلى فرقتين (١).
ولم يقتصر الخلاف بين المنهجين على الجانب الفقهي بالطبع بل انعكست آثاره على المجالات العقيدية ، فكان أهل الحديث يتعبّدون بظواهر الآيات والرّوايات ويبنون عليها عقائدهم دون التعميق في مفاهيمها أو قبول التأويل لمتشابهاتها ، بينما كان أهل الرأي والذين أطلق عليهم المعتزلة فيما بعد يتمسّكون بالعقل أكثر من النقل ويؤولون النّقل إذا وجدوه مخالفاً
__________________
١ ـ الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ١ : ١٥١.