فعندما قويت شوكة الرّسالة واشتدّ ساعدها ، وتحطّمتْ أمامها كلّ قوّةٌ تنازعها ، لم يرَ من كانوا يقفون أمامها ويصدّون عن سبيلها ، إلّا أن يكيدوا لها عن طريق الحيلة والخداع. ولمّا كان أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود (١) ، لأنّهم بزعمهم شعب الله المختار ، فلا يعترفون لأحدٍ غيرهم بفضل ، ولا يقرّون لنبيّ بعد موسى برسالة ، فإنّ رهبانهم وأحبارهم لم يجدوا بُدّاً من أن يستعينوا بالمكر ، ويتوسّلوا بالدهاء ، لكي يصلوا إلى ما يبتغون فهداهم المكر اليهودي إلى أن يتظاهر بعضهم بالإسلام حتّى يخفى كيدهم ، ويجوز على المسلمين مكرهم ، وقد كان أقوى هؤلاء الكهّان دهاءً وأشدّهم مكراً : كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام ، ولما وجدوا أنّ حيلهم قد راجت بما أظهروه من كاذب الورع والتقوى ، وأنّ المسلمين قد سكنوا إليهم ، وذلك بأن يدسّوا إلى أصوله التي قام عليها ما يريدون من أساطير وخلافات وأوهام وترهات (٢).
وكعب الأحبار هو كعب بن ماتع الحميري من كبار أحبار اليهود ، قدم من اليمن ، وأسلم في خلافة عمر بن الخطاب ، وسكن المدينة ، ثمّ تحوّل إلى الشّام في زمن الخليفة عثمان فاستصفاه معاوية وجعله من مستشاريه ، ومات بحمص سنة ٣٤ هـ بعدما ملأ الشّام وغيرها من البلاد الإسلامية برواياته وقصصه اليهوديّة (٣).
__________________
١ ـ إشارة لقوله تعالى (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ) المائدة (٥) : ٨٢.
٢ ـ أضواء على السنّة المحمّدية لمحمود أبو رية : ١٤٥.
٣ ـ المصدر السابق : ١٤٨ ، ولاحظ نسبه وترجمته في المصادر التالية : تاريخ ابن معين ١ : ١٨ و ٣٥ ، العلل لابن حنبل ٢ : ٥٢١ ، الجرح والتعديل للرازي ٧ : ١٦١ ، الثقات لابن حبّان ٥ : ٣٣٣ ، مشاهير علماء الأمصار : ١٩٠.