ثمّ ما هي حدود الإجماع الذي يحتجّ به؟ هل هو إجماع مطلق الأُمّة؟ أو خصوص المجتهدين منهم في عصر؟ أو اتفاق أهل المدينة؟ أو اتفاق مجتهدي المذهب خاصّة؟
الاختلاف في الرأي والفتوى بين العلماء ، مع وحدة المصدر ، هو أمر له أسبابه ، ومبررّاته المعقولة ، وهي جزء من ظاهرة الاختلاف الطبيعية ، بين أبناء البشر ، في مختلف مجالات المعرفة ، وميادين الحياة. فالأطباء والمهندسون والاقتصاديون والفنّيون ، وسائر الشرائح العلمية والعملية في المجتمع ، تتعدّد في أوساطهم المدارس والمناهج ، والآراء والنظريات.
وقد يضيق البعض ذرعاً بهذا الاختلاف بين العلماء ، في الفتوى والرأي ، ويتساءلون عن إمكانية تلافي حالة الاختلاف ، والخروج منها ، بأن يتّفق علماء الإسلام على آراء وفتاوى موحدّة ، في الأصول والفروع ، للعبادات والمعاملات ، فلا تكون هناك مذاهب متعدّدة ، ولا مدارس مختلفة ، ولا أحكام متضاربة.
لكن هذه أمنية لا تنسجم مع طبيعة الدين ، والذي أراد الله تعالى أن تكون فيه مساحة للاجتهاد ، وشحذ العقول والأذهان ، وعبر ذلك يبتلى الإنسان ، ويمتحن إخلاصه في البحث عن الحقيقة والتسليم لها ، ولو كانت كلّ الأحكام منصوصة واضحة ، لا تحتمل خلافاً ، لما كان هناك بحث ولا اجتهاد ، ولا استلزم الأمر ابتلاءً وامتحاناً.
ولعل في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ