وإنّه لمن عجائب حركة التاريخ أن نشهد أوروبا وهي تتوحدّ أمام أعيننا ، وتلملم شتاتها وتلغي تناقضاتها ، ملقية وراء ظهرها بتاريخ يزيد على ألف عام من العداءات وأنهار من الدماء ، وركام من البغضاء. أوروبا ذات القوميات العدوانية المفترسة ، أوروبا الكاثوليكية ـ البروتستنتية ـ الأرثوذكسية ـ العلمانية الملحدة ، أوروبا الرأسمالية والاشتراكية ، وأوروبا ذات اللغات الشتّى. وأن نشهد المسلمين ـ بل العرب ـ وهم يتفتتون ويتمزّقون ويتعادون ويتناحرون ، بل ويتحاربون ، فتسيل بينهم أنهار من الدماء ، وتتعالى جبال من البغضاء ، ملقين وراء ظهورهم بتاريخ من التوحد والتكامل ـ بشكل أو بآخر ـ يمتد إلى ما يزيد على ألف عام.
وليس هذا وذاك من أقدار الله الحتمية التي اختصّ الله بغيبها وحجب عن البشر العلم بسننها ، بل هو قدر جعله الله تعالى رهناً باختيار البشر. إنّه سنّة من سنن حركة التاريخ التي كشف عنها في محكم كتابه المجيد ، إنّه عقلنة علاقات الإنسان والمجتمع على أساس عدم اتباع الأهواء الذاتية الشخصية والعرقية في صياغة هذه العلاقات وإدارتها ، بل اتباع ما تقضي به مصلحة المجتمع والأُمّة العامة في قضية الوحدة ، والتكامل ، والتنوّع وبذلك تحفظ مصلحة الأفراد والجماعات داخل المجتمع والأُمّة ، واتباع الطريق المخالف ، وهو مصلحة الأفراد والجماعات في صياغة العلاقات وإدارتها يضيع مصلح الأُمّة كلّها ، وتضيع ـ في النهاية ـ المصلحة الخاصّة نفسها للأفراد والجماعات.
وقد بيّن الله الحكيم العليم سبحانه هذا القانون في آيات كثيرة ، وفي بعضها أمثلة تطبيقية من تاريخ الأُمم ، ومن ذلك ما بيّنه سبحانه من شأن اليهود