ومع هذا الإصرار المؤكد من الخليفة حالت رواسب الحظر السابق من جانب الخلفاء الماضين عن قيام ابن حزم بمهمته الملقاة على عاتقه ، فلم يكتب شيء من أحاديث النبي إلا صحائف غير منظمة ولا مرتبة الى ان دالت دولة الأمويين وقامت دولة العباسيين وأخذ أبو جعفر المنصور بمقاليد الحكم ، فقام المحدثون عام ١٤٣ ، بتدوين الحديث ، فهذا هو السيوطي يشرح تلك المأساة في سنة ١٤٣ : « شرع علماء الإسلام في هذا العصر في تدوين الحديث والفقه والتفسير فصنف ابن جريج بمكة ، ومالك الموطأ بالمدينة ، والأوزاعي بالشام ، ابن أبي عروبة وحماد بن سلمة وغيرهما في البصرة ، ومعمر باليمن ، وسفيان الثوري بالكوفة وصنف ابن إسحاق المغازي ، وصنف أبو حنيفة الفقه والرأي ـ الى ان قال : وقبل هذا العصر كان الأئمة يتكلمون من حفظهم أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة (١).
وقد ادعى ذلك التقاعس والتواني إلى انه لما تكثرت الفروع بسبب اختلاط المسلمين بغيرهم ولم يجدوا في السنة النبوية نصا فيها ، مال قسم من العلماء الى القول بالرأي والاستحسان ، فأفتوا بآرائهم فيما لا يجدون نصا فيه فاشتهروا بأصحاب الرأي والقياس ، وكان أكثر أهل العراق من أتباع هذه المدرسة ، كما أن أكثر أهل الحجاز كانوا يتجنبون عنه وقد روي انه لما سأل ربيعة بن عبد الرحمن ( ت ١٣٦ ) سعيد بن المسيب عن علة الحكم ، فأجاب : أعراقي أنت؟ (٢).
ولم تكن إحدى الطائفتين أولى من الأخر في أداء الوظيفة ، فإذا كان العمل بالرأي والقياس أمرا محظورا فالتزمت بالنصوص المحدودة وعدم هداية الأمة إلى واجبها مجال الفروع والتكاليف محظور مثله ، وما ذلك الا ان الحظر الذي أصدره
__________________
(١) السيوطي : تاريخ الخلفاء ، ص ٢٦١.
(٢) أحمد أمين : فجر الإسلام ، ١ ـ ٢٩٠.