الناس ثورة علميّة ، وقد ترك جماعة من النّاس مذهبهم ودخلوا في المذهب الإمامي نتيجة لقدرته الكلاميّة ومنطقه القويّ. وقد يخرّج من مدرسته ، الرجل الكلامي المجرب الشريف المرتضى علم الهدى رضياللهعنه في رجال آخرين.
وجدير بالذكر أن المفيد والمرتضى وشيوخهم والمعاصرين لهم وحتى الشيخ الطّوسي نفسه كما يبدو من مطاوي التاريخ ، كانوا قبل كلّ شيء مراجع للناس في علم الكلام ودفع شبهات المخالفين. والظّاهر أنّ هذا العلم في تلك الأعصار قد كانت له الرّتبة الأولى بالنسبة إلى باقي العلوم حتى الفقه والحديث. فكان إمام الشيعة ورئيسهم المقدّم على غيره هو العالم المتكلّم دون العالم الفقيه ، كما هو المعتاد في الأزمنة المتأخرة ويدلّ على هذا الأمر تلك الرسائل المتعددة الّتي نجدها في قائمة تصانيف تلك الطبقة من العلماء التي هي أجوبة مسائل وردت إليهم من البلاد البعيدة. وكذلك الكتب التي ألّفوها ردّا على مخالفيهم وتفنيدا لآرائهم. حيث إنّ أكثرها في المسائل الكلاميّة ، وإن كان للفقه منها حظّ وافر.
وبعد علم الكلام كانت الأهمية العظمى للفقه والأصول ، ولعل الاهتمام بالحديث كان أكبر من الاهتمام بهما أيضا بل إنّ الحديث كان أسهل تناولا لاعتماده بصورة رئيسية على النّقل ، وكانت بغداد ملتقى العلماء والمحدثين من كلّ بلد ، ومحل تردّدهم ، وليس مبالغة في القول لو ادعينا أنّ الأحاديث الإسلامية ومن جملتها الرّوايات عن أئمة أهل البيت عليهمالسلام قد انتقلت من أكثر البلاد وجمعت في بغداد عند الشيوخ.
وبقطع النظر عن رواة الشيعة في القرنين الثّاني والثالث ، فان عندنا شخصية شيعية مشهورة ، ألا وهو محدّث الشّيعة وحافظهم أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني الّذي كان في مدينة « الرّيّ » زعيما للشيعة ، ثم انتقل إلى بغداد بسبب مجهول لعلّه العمل على رواية كتاب الكافي وبثّ أحاديث في بغداد مركز الشيعة يوم ذاك ، وهناك فارق الدنيا وقبره الآن مزار معروف. ويحتمل قويّا أنّه ألّف هذا الكتاب قبل هجرته إلى بغداد لكنّه حدّث به فيها ، فإنّ أكثر رواة الكافي كانوا يعيشون في بغداد وفيها حدّثوا به للآخرين ، كما أنّ شيوخ الكليني عامّتهم من مشايخ قم والرّي (١) وما قاربها من البلاد.
__________________
(١) رجال النجاشي ص ٢٦٦. وكان الكليني مشتهرا ب « الرازي » و « البغدادي » و « السلسلي » نسبة إلى درب السلسلة الواقعة في باب الكوفة ببغداد وكان يحدث في هذا المكان بالكافي عام ٣٢٧ ، وكأنّه في نفس هذه السّنة انتقل إلى بغداد ، فلاحظ مقدمة الكافي للدكتور حسين على محفوظ ص ١٨ ولنا مقالات حول