« قرأت هذه الكتب أكثرها عليه ، وسمعت سائرها يقرأ عليه دفعات كثيرة » (١). والخبراء يعلمون ولا يخفى عليهم أنّ قراءة أو سماع الكتب الكبيرة والمتعددة إلى جانب تحقيقها ودرايتها يستوعب وقتا طويلا. ويبدو أن الشيخ الطوسي جهد كثيرا ليحصّل في السنوات الأولى التي قضاها في بغداد وعند كبار المشايخ والأساتذة العظام على أقصى ما يمكنه من المعلومات ، مستغلا حياتهم وآخر أنفاسهم حتى لا يسبقوه بموتهم ، فيفوته شيء من علمهم. وبذلك نعتقد أن الدراسة استغرقت كل وقته ، ليله ونهاره في تلك السنين.
الشيخ المفيد وملازمة الشيخ الطوسي له
يعتبر المفيد أعظم مشايخه وأساتذته ، لا سيّما في العلوم النقليّة حيث كان معظم استناده إليه. كان المفيد رئيس متكلّمى الشيعة ورأس فقهائها في عصره يقول اليافعي : « .. البارع في الكلام والفقه والجدل ، وكان يناظر أهل كلّ عقيدة مع الجلالة والعظمة في الدولة البويهية » (٢) وقد وصفه معاصره ابن النديم هكذا : « انتهت في عصرنا رئاسة متكلّمى الشيعة إليه ، مقدم في صناعة الكلام على مذهب أصحابه ، دقيق الفطنة ، ماضى الخاطر ، شاهدته فرأيته بارعا » (٣). وإذا التفتنا إلى أنّ ابن النديم يكتب هذا الكلام عن المفيد المتوفّى عام ٤١٣ ه وقد نصّ على انّه ألف فهرسته عام ٣٧٧ ه حكمنا بأنه شاهد المفيد وكتب عنه في أواسط أيّام المفيد حيث لم يتجاوز الأربعينات ، وعاش بعد ذلك دهر أو اكتسب شهرة فوق ما كتب عنه.
وأمّا الخطيب البغدادي الذي هو بدوره أدرك المفيد في شبابه فيحكي لنا كيف جعل المفيد أهل السنّة في ضيق شديد بقوّة حجته وتأثير كلامه بين النّاس حتّى أقبلوا على ما كان يدعوهم اليه من مذهب آل البيت ، يقول الخطيب : « هلك به خلق من الناس إلى أن أراح الله المسلمين منه .. » (٤)
فيتبيّن لنا من خلال أقوال المترجمين للمفيد ، سواء ممن كانوا معاصرين له ومن أهل حلقته ، أو من غيرهم من الشّيعة أو من أهل السنة ، أنّ المفيد كان بارعا في قوّة الحجّة ، والغلبة على خصمه ، حاضر الجواب ، نشيطا للبحث والمناظرة ، ولم يكن في زمانه من
__________________
(١) فهرست الطوسي ص ١٢٦.
(٢) مقدمة الرجال للسيد محمد صادق آل بحر العلوم ص ٧ نقلا عن مرآة الجنان لليافعي.
(٣) فهرست ابن النديم ص ٢٦٦ و ٢٩٣.
(٤) تاريخ بغداد للخطيب ج ٣ ص ٢٣.