وهكذا يدرك كل فرد بفطرته أن لهذا العالم الفسيح خالقاً وأن لهذا الأثر العظيم والعجيب مؤثراً ، ولكن لا يكفي هذا في مقام الشكر لله تعالى وتعظيمه . بل يجب أن يخطو الإِنسان خطوة أوسع ويطلع على آثار قدرة الله ويؤمن به ، ويشكره للنعم الكثيرة التي لا تحد ولا تحصر ، وإن الفطرة الأولى لا تحتاج إلى معلم ، والأنبياء جاؤا لهداية البشر في المرحلة الثانية.
وبالرغم من أن الناس يستفيدون من مصنوعات بني جنسهم بصور شتى لكن القليل منهم يقدر جهود العلماء والمهندسين الذين صنعوا تلك المصنوعات إن باستطاعة المريض المشرف على الهلاك أن يركب طائرة ويصل في ظرف بضع ساعات إلى أرقىٰ المستشفيات في العالم وتجري له عملية جراحية وينجو من الموت الألم . هذا المريض يعلم أنه لو لم تكن الطائرة ، ولو لم يكن العقار المخدر ، ولو لم تكن العقاقير المطهرة للجراثيم . . . ولو لم تكن عشرات الإِختراعات العلمية فأنه يموت . . . إن المريض يدرك بفطرته أن لكل من هذه المخترعات مخترعاً ، ولكنه في سبيل العلاج والتطبيب لا يفكر إلا في نفسه والمنافع التي يحصل عليها من تلك الإِختراعات غافلاً عن المهندسين العظماء والمخترعين الكبار الذين أوجدوا تلك الصنائع ، ولا يتذكرهم في مقام تقدير جهودهم .
قد يقف الخطيب في قاعة ضخمة ويلقي محاضرة على عشرات الألوف من المستمعين موصلاً صوته إليهم بواسطة جهاز تكبير الصوت وهو يدرك بفطرته أن لهذا الجهاز صانعاً ولولاه لما استطاع أن يوصل صوته إلى هذا العدد الضخم من الناس ، ولكنه غافل عن معرفته الفطرية ولا يتنبه إلى مخترع هذا الجهاز أصلاً ، بل يفكر في رغبته فقط ويتنبه إلى وصول صوته إلى أكبر عدد ممكن من الناس فحسب .
هذا وإن الجميع يعلمون أن هذه الغفلة وعدم تقدير جهود المخترعين والمنشئين لا يغيران من الواقع شيئاً : فَلِكُلِّ مَصنُوعٍ صانِع ولِكلِّ أثرٍ مؤثِّر .