الحديث الثاني دلالة على أنّ إجهار النبيّ صلىاللهعليهوآله بصلاة الجمعة والمغرب والعشاء إنّما هو لأجل تبيين فضله عند الملائكة ، والإجهار في الصبح لأجل تبيين فضله عند الناس. وفي الحديث الثالث أنَّه إنّما جهر بها ؛ لأنّه عليهالسلام يغلس بها ) انتهى كلامه ، علت في الخلد أقدامه.
أقول : لا يخفى أنّ ما ذكره غير ناهض بالمدَّعى ، إذ التعليل لم يتوجّه إلى نفس الجهر من حيث هو ، وإنّما توجّه إلى ما هو أعمّ منه ؛ وذلك أنّه لمّا انتقش في ألواح الفِطَن السليمة ، وانغرس في حدائق الفِطَر المستقيمة غير السقيمة ، قبحُ ترجيح أحد المتساويين بلا مرجّح ، توجّه السؤال عن جعل الجهر في بعض الصلوات ، والإخفات في بعضها ، حيث قد صدر من الحكيم المطلق ، وكانت تلك الصلوات بأسرها مرادة له ، فأُجيب بوجه الترجيح.
والتعليل لا ينافي الأصالة كما يحكم به الذهن الرجيح ، وقد ثبت أنّ العلل الشرعية إنّما هي معرِّفات تقريبية لا حقيقية ، فهي إمّا للتقريب للإفهام القاصرة بالنكت الظاهرة ، أو لبيان وجه المصلحة أو الداعي والحكمة.
وأيّا ما كان لا يلزم عدم الأصالة ، ألا ترى أنّ أصل فرض الصلاة إنّما هو القصر مثنىً مثنىً ، كما نطقت به أخبار أهل الذكر عليهمالسلام (١) ، مع أنّ قصر الرباعية في السفر وردّها إلى الأصل معلّل بالتخفيف من الله تعالى على عبده « لموضع سفره ونصبه ، واشتغاله بأمر نفسه ، وظعنه وإقامته ؛ لئلّا يشتغل عمّا لا بدّ منه في معيشته ، رحمة من الله ، وتعطّفاً عليه » (٢) ، كما في الخبر.
بل لو كان مجرّد التعليل منافياً للتأصيل لزم انقلاب الدليل ؛ إذ قد تضمّن صحيح الفضل (٣) تعليل عدم الجهر في صلاة النهار ؛ لكونها في أوقات مضيئة ، فهي من جهة
__________________
(١) علل الشرائع ٢ : ١٧ ـ ١٨ / ١ ، الوسائل ٤ : ٨٩ ، أبواب أعداد الفرائض ، ب ٢٤ ، ح ٧.
(٢) علل الشرائع ١ : ٣٠٩ ، الوسائل ٨ : ٥٢٠ ، أبواب صلاة المسافر ، ب ٢٢ ، ح ١٢.
(٣) الفقيه ١ : ٢٠٣ / ٩٢٧ ، الوسائل ٦ : ٨٢ ٨٣ ، أبواب القراءة في الصلاة ، ب ٢٥ ، ح ١.