والحقائق العينيّة ، وأمر من يتحدّث على لغته باستعمال اللفظ فيما وضعه له ، إلى اخر كلامه رفع مقامه.
فإنّ قوله : « والحقائق العينيّة » عطف تفسير للمعاني الخارجيّة ، وهو مع وصف الحقائق بالعينيّة قرينة واضحة على أنّ مراد أهل القول بوضعها للمعاني الخارجيّة دعوى وضعها لحقائق المعاني وأعيانها ، قبالا لمن يدّعي وضعها لصور تلك الحقائق وأشباهها ، والتعبير « بالعين » تنبيه على مقابلته للشبه والصورة ، فالنزاع بناء على ما قرّرناه لا يرجع إلى أخذ الوجود بأحد قسميه في مداليل الألفاظ ومعانيها الموضوع لها شطرا أو شرطا ، كما زعمه جماعة بل هو المعروف في أعصارنا هذه ، فإنّه اشتباه في فهم معنى عنوان المسألة وغفلة عن حقيقة مراد المتنازعين فيها.
والظاهر أنّ منشأ الاشتباه أمران ، أحدهما : ما تكرّر في تضاعيف المسألة ، من التعبير عن القولين بالوضع للموجودات الخارجيّة والوضع للموجودات الذهنيّة.
وثانيهما : احتجاج أهل القول بالوضع للامور الخارجيّة ، بما يأتي من قول القائل : « شربت الماء وأكلت الخبز ... » الخ.
وقد عرفت ما يصرف الأوّل عمّا يوهمه ، وليس مبنى الاستدلال على كون هذه الألفاظ مستعملة فيما دخل فيه الوجود ، بل على كونها مستعملة في أعيان المعاني المرادة منها لا في صورها المرتسمة في الذهن ، بدليل أنّ الأفعال المذكورة لا تتعلّق إلاّ بالأعيان ولا يعقل تعلّقها بالصور الذهنيّة ، وكما أنّه ليس مبنى النزاع على أخذ الوجود بأحد قسميه في الوضع بعنوان الجزئيّة أو بعنوان القيديّة ، فكذلك ليس مبناه على ملاحظته حيثيّة في الوضع للمفاهيم من دون اعتباره جزا ولا قيدا ، ولا على ملاحظة الحيثيّة بالقياس إلى المفاهيم ، بأن يعتبر الوضع لها من حيث كونها عنوانات لمصاديقها خارجيّة أو ذهنيّة ، فإنّه على ما قرّرناه من تحريره لا يقتضي شيئا من هذه الاعتبارات ، بل يأبى أكثرها كما لا يخفى على المتأمّل.