المستقلاّت العقليّة ، فإنّ حكم العقل بوجوب مقدّماتها ولو إرشادا لا ينافي إدراكه كونها بحيث يطلبها الشارع ولو شأنا ، ولا سيّما بملاحظة ما هو التحقيق من كون حكمه فيها من باب الإدراك لا غير ، بل وبملاحظة ما قدّمنا احتماله من كون ذلك المدرك طلبا شأنيّا قائما مقام الطلب الفعلي في جميع الآثار واللوازم.
وبذلك بطل الفرق الّذي أشرنا إليه بين مقدّمة العلم وغيرها في الوجوب الثابت فيهما ، فإنّ الكلّ على نهج سواء وصفا ونوعا.
ثمّ إنّ ما ذكرناه من وجوب المقدّمة العلميّة لا يفترق الحال بين كونها فعليّة كما عرفت أو تركيّة كما في الحرام المشتبه بغيره مع كون الشبهة محصورة ، فيجب الاجتناب عن جميع أطراف الشبهة مقدّمة ، لتوقّف العلم بما وجب عليه من ترك الحرام عليه على ما هو المصرّح به في كلام جماعة منهم العلاّمة ، خلافا لبعض الأعلام فقال : بمنع الوجوب حينئذ ولو على القول بوجوب المقدّمة ، وعلّله بأنّ الواجب إنّما هو الاجتناب عمّا علم حرمته لا عن الحرام النفس الأمري لعدم الدليل على ذلك ، والأصل والأخبار المعتبرة يساعدنا. ولنا معه كلام يطول البحث بذكره مع أنّ له محلاّ أليق به من المقام يأتي إن شاء الله.
الأمر الثالث
ومن جملة ما تقدّم البحث عنه سابقا ما أوردناه في مباحث الواجب الغيري من الخلاف في اعتبار وصف الإيصال فيما وجب بالغير إلى ذلك الغير بحيث لولاه كشف أنّ المأتيّ به لم يكن واجبا.
ولقد عرفت أنّ بعض الفضلاء ذهب إليه ، وبسطنا الكلام في دفع توهّمه ونبّهنا على أنّ هذا الكلام غير مختصّ بما ورد به نصّ بالخصوص بل يعمّه والمقدّمة الّتي وجوبها على القول به غيري ، فلذا أوردنا البحث ثمّة على وجه يشمل المقدّمة أيضا ونزيد هنا أنّه ربّما يتخيّل ـ على ما حكاه بعض الأفاضل ـ أنّ الواجب من المقدّمة ما يحصل به التوصّل إلى الواجب دون غيره ، فإذا أوجب الشارع علينا الحجّ كان قطع المسافة الموصل إلى الحجّ واجبا علينا لا مطلقا ، فلو قطع المسافة إلى مكّة وترك الحجّ لم يكن آتيا بالمقدّمة الواجبة.
وممّن اختار هذا المذهب بعض الفضلاء على نحو ما اختاره في الواجب الغيري ، فقال : إنّ مقدّمة الواجب لا تتّصف بالوجوب والمطلوبيّة من حيث كونها مقدّمة إلاّ إذا ترتّب عليها وجود ذي المقدّمة. ـ إلى أن قال ـ : بمعنى أنّ وقوعها على الوجه المطلوب منوط