كون حكم العقل من باب الإنشاء لا الإدراك ، فيصدق عليه حينئذ أنّه « أمر » بالمعنى الآتي جزما ، فما ذكره بعض الأعاظم في ردّ هذا القول ـ بأنّه مردود ، لعدم ثبوت الاستعمال في الأدلّة العقليّة بالخصوص ـ ليس بسديد.
نعم يرد على هذا القول في دعوى الحقيقيّة في القول المخصوص ، أنّ ذلك مبنيّ على ما يأتي منعه من دخول القول المخصوص في مفهوم « الأمر » ومسمّاه الحقيقي ، وأنّه بالقياس إلى الطلب لا يفترق الحال فيه بين أقسامه ، فلا وجه لتخصيصه بالأمر العقلي ، وهو الإلزام العقلي على الفعل الملازم لإلزام الشرع عليه ، بناء على ثبوت الملازمة بين حكمه وحكم الشرع.
وأمّا المعنى الأوّل الّذي أشرنا إليه إجمالا فلا بدّ من تحقيق حاله جنسا وفصلا ليتبيّن بعض الاشتباهات.
فنقول : ينبغي القطع بأنّ « الأمر » ليس من مقولة الألفاظ لغة وعرفا ، فقد أخطأ من فسّره بالقول المخصوص ، كما في كلام كثير من العامّة والخاصّة ، لعدم انسباقه إلى الذهن في شيء من استعمالاته العرفيّة ، وانسباق غيره إليه بالنظر إلى ما سيأتي في مثل قولك : « أنا آمر بكذا ومأمور بكذا » وعدم كونه ممّا يساعد عليه شيء من اطلاقات « الأمر » ولا سائر مشتقّاته عند أهل اللسان ، الذين لا يكون تعرف ذلك ونظائره إلاّ موكولا إليهم لعدم مدخليّة غيرهم فيه ، من حيث كون مفهومه عرفيّا كاشفا عن أصل اللغة ، ولو مع ضميمة بعض الأصول على ما هو الطريقة المستمرّة لديهم قديما وحديثا.
فلا وجه لما عن فخر الدين في بعض كتبه من تحديده : « باللفظ الدالّ على طلب الفعل على سبيل الاستعلاء » لوضوح البينونة بينه وبين المحدود.
مضافا إلى أنّ « اللفظ » إن اريد به الملفوظ ـ كما هو معناه المصطلح ـ لم يكن ملائما للفظ « الأمر » من حيث كونه مصدرا ، فلا يفسّر بما يبائنه ، مع أنّه ممّا يصحّ الاشتقاق منه بجميع الأنواع قولا واحدا ، مع شهادة الضرورة من العرف وأهل اللسان ، وليس كذلك « اللفظ » على هذا التقرير ، فهو آية المبائنة بينهما من وجه ثالث.
وإن اريد به التلفّظ لم يكن ملائما لتوصيفه بالدلالة ، الّتي هي وصف للّفظ بالمعنى الأوّل ، مع أنّ « آمر » أو « مأمور » إنّما يصدق على من قام به أو وقع عليه المحدود صدقا حقيقيّا بلا شائبة ريب ولا استهجان عرفي ، ولا يصدق عليهما « لافظ » ولا « متلفّظ » بالكسر والفتح ، لمكان الاستهجان عرفا على حدّ الوضوح ، وهو أيضا من آيات البينونة.