لوضوح الفرق بين المقامين ، بأنّ جهة المنع في مثال العمومات إنّما هي الإجمال العرضي الناشئ من التخصيص المعلوم بالإجمال ولا إجمال فيما نحن فيه ، بل الاختلال في أيّ ظاهر حصل بسبب وقوع التحريف فيه فإنّما هو خروج ذلك الظاهر عن الحجّية ، لما اعتراه من تغيير الحكم الشرعي المستفاد منه بسبب ما اعتراه من الزيادة أو الإسقاط ، وغاية ما يلزم من العلم الإجمالي في المعلوم بالإجمال المردّد بين ظواهر آيات الأحكام وظواهر غيرها ، إنّما هو احتمال تحقّق هذه الجهة من المنع في بعض ظواهر آيات الأحكام ، ومجرّد ذلك الاحتمال لا يصلح مانعا من التمسّك بها.
وقد يقال في الفرق بين المقامين ، بأنّ المعلوم بالإجمال فيما نحن فيه مردّد بين ما يكون معارضا لما يجب العمل به من الظواهر ، وبين ما لا يكون معارضا لها على تقدير وقوعه فيما لا يجب العمل به من الظواهر وهي الّتي لا تعلّق لها بالأحكام ، ومثل ذلك لا يوجب اجمالا في ظواهر آيات الأحكام الّتي يجب العمل بها ، إذ الإجمال فرع العلم بوجود المعارض ، وهو غير معلوم بالنسبة إلى هذه الظواهر ، بل المعلوم مردّد بين كونه معارضا لها وكونه غير معارض لها فتكون باقية على ظهورها ، ومعه لا وجه لرفع اليد عنها ولا عذر في عدم العمل بها.
وهذا نظير ما لو قال المولى لعبده : « أكرم العلماء » وقال جاره أيضا لعبده : « أكرم العلماء » ، ثمّ سمع عبد المولى قول : « لا تكرم زيد العالم » وتردّد بين كونه صادرا من مولاه إليه ومن الجار إلى عبده ، فإنّ هذا العبد لا يجوز له التوقّف في إكرام زيد وترك العمل بعموم خطاب المولى اعتذارا باستماعه ما تردّد بين كونه معارضا لذلك الخطاب وعدم كونه معارضا له على تقدير صدوره من الجار ، بل لو توقّف معتذرا بذلك استحقّ عقاب المولى وذمّ العقلاء ، وليس ذلك إلاّ من جهة أنّ المعلوم بالإجمال المردّد بين المعارض لظاهر الخطاب وغير المعارض له لا يوجب إجمالا فيه ولا يصادم ظهوره.
التنبيه الرابع :
أنّه قد توهّم بعض الأعلام (١) ـ في باب الاجتهاد عند الكلام في حجّيّة ظنّ المجتهد ، ومنع حجّيّة ظواهر الكتاب في حقّ غير المشافهين ـ أنّ كون حجّيّة ظواهر الكتاب من
__________________
(١) قوانين الأصول : ٢ : ١٠٣.