الأمر الثاني : [ في أنّ الإجماع المحصّل هل هو من الأدلّة اللفظيّة أو اللبّية؟ ]
إنّ الإجماع حيثما نقول بحجّيّته من باب كونه نقلا للسنّة ، أو نقلا لملزوم السنّة ، أو مفيدا للظنّ الاطمئناني ، دليل لفظي يجري عليه جميع أحكام اللفظ من عموم وخصوص ، وإطلاق وتقييد ، وبيان وإجمال ، وانصراف وعدمه ، ويقبل التخصيص أيضا ، هذا ممّا لا كلام فيه.
وإنّما الكلام في الإجماع المحقّق ـ إن قلنا بكونه كاشفا ـ فهل هو من الأدلّة اللفظيّة ـ كما اشتهر في الألسنة ـ أو اللبّيّة؟
ويظهر الفائدة في إجراء أحكام اللفظ فيه أيضا ، والّذي يقتضيه التأمّل الصادق أنّه يمكن كونه لفظيّا وكونه لبّيا على جميع الطرائق ، ويختلف ذلك باعتبار معقد الإجماع.
أمّا على طريقة القدماء : فإن حصل الاتّفاق على قضيّة ملفوظة وعبارة مخصوصة ، كما لو اتّفقوا على الإفتاء بعبارة « كلّ كلب نجس » ، أو « الكلب نجس » ، كان دليلا لفظيّا باعتبار لفظيّة معقده من باب وصف الشيء بحال متعلّق الموصوف ، فإنّ العبارة المذكورة قد [ علمنا ] بصدورها من الإمام بواسطة الإجماع الكاشف ، فتكون كما لو سمعناها منه مشافهة ، أو علمنا بصدورها منه بتواتر ونحوه ، كما في المتواترات اللفظيّة ، فتقبل التخصيص بإخراج البحري والتقييد بالبرّي ، كما تقبل دعوى الانصراف إلى البرّي ، وإن حصل على أمر معنوي ، وهو مدلول العبارة المذكورة ومضمونها ، وهو نجاسة الكلب من غير أن يكون هناك لفظ ، كان دليلا لبّيا فلا يقبل شيئا من أحكام اللفظ ، فالقول بأنّ الإجماع غير قابل للتخصيص لكونه دليلا لبّيّا منزّل على هذا الوجه.
وأمّا على طريقة الشيخ : فلأنّ الإجماع كاشف عن تقرير المعصوم ، والتقرير على ما حقّق في محلّه يكون في الأقوال ، كما لو سمع عبارة « الكلب نجس » من قائل ولم ينكر عليه بلا عذر من خوف أو تقيّة ، فيكشف عن صدقه ومطابقته الواقع ، كما يكون في الأفعال فيكشف عن جوازه وإباحته ، وفي الاعتقادات كأن يعتقد أحد بعينيّة صفاته تعالى فيكشف عن حقيّته ، وحينئذ فلو فرض حصول الإجماع على نحو العبارة المذكورة ، وكشف عن تقرير الإمام إيّاهم عليها كان لفظيّا ، ولو فرض حصوله على مدلولها من غير أن يكون هناك لفظ ، بأن تواردت فتاويهم بعبارات مختلفة على حكم واحد كان لفظيّا [ لبيّا ](١).
وأمّا على طريقة المتأخّرين : فقد يقال : بأنّه لا يكون إلاّ لبّيّا ، إذ المفروض كشفه عن حقيّة
__________________
(١) وفى الأصل « لفظيّا » وهو سهو ، والصواب ما أثبتناه في المتن كما يعطيه التأمّل فى السياق.