الامور الدينيّة لطف واجب عليه ، ولكنّه بالقياس إلى الثاني مشروط بمساعدة مصلحة التقيّة لعدم منافاة الاشتراط للحكمة الباعثة على نصبه ، وبالقياس إلى الأوّل مطلق بالنسبة إلى هذا الشرط لمنافاة الاشتراط للحكمة الباعثة على بعثه.
وبالجملة التعليق في إيجاب التصرّف والتدبير في الامور الدينيّة بالقياس إلى مصلحة التقيّة يخلّ باللطف الواجب على النبيّ ولا يخلّ باللطف الواجب على الإمام ، لأنّ مصلحة الدعوة وإتمام الحجّة وإظهار الحقّ أقوى من مصلحة التقيّة ، كما أنّ مصلحة التقيّة بعد ما ظهر الحقّ وتمّت الحجّة أقوى من مصلحة إزاحة العلّة وإزالة الجهل ، لأنّ عدمهما لا يستند إلى الإمام بل إلى الرعيّة لامتناعهم عن الرجوع إليه أو منعهم إيّاه عن القيام بمنصبه.
احتجّت الأشاعرة بوجوه واهية نقتصر منها على وجهين ذكرهما العلاّمة في التهذيب (١) :
أحدهما : أنّ أفعال العباد اضطراريّة فينتفي اتّصافها بالحسن والقبح عقلا اتّفاقا ، أمّا عندنا فواضح ، وأمّا عند الخصم فلأنّهما عنده من صفات الأفعال الاختياريّة لا غير.
وثانيهما : قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً )(٢).
وجه الاستدلال : أنّ الحسن والقبح لو كانا بالعقل لزم حصول التعذيب قبل بعث الرسول ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.
بيان الملازمة : أنّ التعذيب لازم للوجوب على تقدير تركه وللحرام على تقدير فعله ، فإذا كان الوجوب والحرمة بالعقل لم يتوقّفا على بعث الرسول فيتحقّق التعذيب قبله ، وأمّا بطلان التالي فلقوله عزّ من قائل : ( وَما كُنَّا ... ) إلخ (٣) ، فإنّه نفى التعذيب من دون بعثة الرسول.
وفيه : أنّ أقصى ما في الآية نفي فعليّة التعذيب وهو لا ينافي استحقاق العذاب ، لإمكان العفو وهو اللازم للوجوب والحرمة لا غير ، ودعوى امتناع العفو عندهم عن الإخلال بالواجبات العقليّة بإطلاقها حتّى قبل البعثة بل مطلقا ممنوعة ، كيف ولم يظهر إلى الآن قائل بذلك ، ولذا قيل : « إنّه افتراء لو اريد نسبته إلينا » وعلى تقدير وجود قائل به فهو ممّن لا يعتدّ به ولا يوجب قوله إطباقهم عليه.
ولو سلّم الاستلزام فليس في الآية عموم ولا إطلاق بحيث يشمل المقام ، بل غاية مفادها نفي استحقاق العذاب على طريقة القضيّة المهملة.
__________________
(١) تهذيب الوصول إلى علم الاصول : ٥٣.
(٢) الإسراء : ١٥.
(٣) الإسراء : ١٥.