صار إليه المتأخّرون ، ففي هذا المقصد مقامات :
المقام الأوّل في أنّه هل يمكن عقلا أن يتعبّدنا الله سبحانه بالعمل بالظنّ ، أو يستحيل ذلك عقلا استحالة عرضيّة ، من جهة استلزامه القبح ومنافاة الحكمة مع إمكانه الذاتي كالظلم منه تعالى ، لا استحالة ذاتيّة كالجمع بين النقيضين ونحوه.
وقد وقع الخلاف في ذلك بين العامّة والخاصّة غير أنّ المعروف بين الفريقين إمكانه.
وعن جماعة من المتكلّمين منّا كإبن قبة (١) وأتباعه ، ومن العامّة كالجبّائيين امتناعه ، غير أنّ هؤلاء لم يصرّحوا بذلك في خصوص الظنّ حيث لم نجد منهم هذا العنوان بخصوصه ، وإنّما أحالوا التعبّد بخبر الواحد استنادا إلى ما لا فرق فيه بينه وبين غيره من الأسباب الغير العلميّة الّتي منها الظنّ ، فبملاحظة جريان دليلهم في الظنّ على حدّ جريه في خبر الواحد نقطع بعموم كلامهم في دعوى الاستحالة.
فكيف كان فاستدلّ على القول بالإمكان : بأنّا نقطع بأنّه لا يلزم من التعبّد به محال.
ونوقش في هذا التقرير : بأنّ القطع بعدم لزوم المحال في الواقع موقوف على إحاطة العقل بجميع الجهات المحسّنة والجهات المقبّحة ، وعلمه بانتفاء الجهات المقبّحة ، والإحاطة مع العلم المذكور غير حاصلين في المقام.
فالأولى أن يقرّر : بأنّا لا نجد في عقولنا بعد التأمّل ما يوجب الاستحالة وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان ، ويخدشه : بأنّ عدم وجدان ما يوجب الاستحالة لا يستلزم عدم وجوده في الواقع ، فلا بدّ في الحكم بالإمكان معه من وسط آخر وهو بمجرّده لا يصلح وسطا ، ولعلّه الأصل في نظر المستدلّ وإن لم يصرّح به في الدليل ، فيرجع حينئذ إلى ما قد يقال ـ في الاستدلال ـ : من أنّ الأصل هو إمكان التعبّد ، لما هو المقرّر من أنّه كلّما دار الأمر في شيء بين الإمكان والامتناع فالأصل هو الإمكان.
وقد أشار إليه الشيخ الرئيس أيضا ـ فيما حكي عنه ـ « من أنّه كلّما قرع سمعك شيء ولم يقم على امتناعه برهان فذره في بقعة الإمكان » ولم نتحقّق لهذا الأصل معنى إلاّ أن يراد منه القاعدة ، وهو قاعدة أنّ المانع يكفيه المنع ولا يطالب بالدليل ، بخلاف المدّعي
__________________
(١) هو أبو جعفر محمّد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي وكان معتزليّا ثمّ تبصّر ، رجال النجاشي : ٣٧٥ / ١٠٢٣.