« كان » في هذه المقامات لتقرير النفي ، والتنبيه على كون انتفاء الخبر عن الاسم من الصفات اللازمة له الغير المنفكّة عنه ، وعليه فلا يتفاوت الحال بين المضيّ والحال والاستقبال ، فالآية شاملة لهذه الامّة أيضا ، ولا عذاب بالقياس إليهم إلاّ ما في قوّة الوقوع من العذاب الاخروي.
وثالثا : أنّ حاصل مفاد الآية على ما بيّنّاه كون الجهل عذرا مانعا من استحقاق العذاب فهو المناط لنفي العذاب ، وعلى تقدير اختصاصه بالعذاب الدنيوي الواقع في الامم السابقة جرى حكمه في العذاب الاخروي المحتمل وقوعه عليهم وعلى هذه الامّة ، ضرورة أنّ الجهل إذا صلح عذرا مانعا من استحقاق العذاب الدنيوي على مخالفة الأحكام الواقعيّة قبل البعث ، لصلح عذرا مانعا عن استحقاق العذاب الاخروي أيضا على مخالفة هذه الأحكام ، بل بطريق أولى كما لا يخفى.
وبالجملة مناط النفي منقّح بنفس الآية ، فيجري حكمها وهو نفي العذاب في العذاب الاخروي أيضا.
فاندفع بأحد هذه الوجوه الثلاث ما قيل في المناقشة من ظهور الآية في الإخبار بوقوع التعذيب سابقا بعد البعث ، فيختصّ بالعذاب الدنيوي الواقع في الامم السابقة.
ومنها : قوله تعالى : ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ )(١) قصّر تعالى فيه الهلاك والحياة على صورة وجود البيّنة ، فيدلّ على إنتفاء الهلاك عند انتفاء البيّنة وهو المطلوب ، فإنّ الهلاك والحياة كنايتان إمّا عن الإطاعة والمعصية المستلزمتين لترتّب المثوبة والعقوبة في دار الآخرة ، أو عن الوقوع في المثوبة والعقوبة في دار الآخرة من دخول الجنّة والورود على النار.
وعلى التقديرين فحاصل مفادّ الآية : أنّ مناط الثواب والعقاب في دار الآخرة إنّما هو ورود البيان وبلوغه وعدمه.
ومنها : قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها )(٢) فإنّ الموصول كناية عن الحكم الواقعي المجعول الّذي لا يبلغ حدّ التكليف إلاّ ببيانه وعلم المكلّف به ، فقوله : ( آتاها ) أي أعطى ذلك الحكم وبيّنه لها وأعلمها به.
لكنّ الإنصاف أنّ هذا المعنى خلاف ظاهر الآية ، فإنّ الموصول بقرينة ما قبل الآية
__________________
(١) الأنفال : ٤٢.
(٢) الطلاق : ٧.