الاستصحاب كما في مسألة الشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة من مسائل دوران المكلّف به بين الأقلّ والأكثر ، فإنّ أصالة البراءة عن العقاب على ترك الأكثر واردة على استصحاب الأمر والاشتغال المقتضي لعدم الاجتزاء بالأقلّ إن قلنا بجريانه ، لكون الشكّ في بقائهما مسبّبا عن الشكّ في مسألة الجزئيّة أو الشرطيّة ، وأصالة البراءة ممّا يوجب الخروج عن هذا الشكّ فيرتفع به الشكّ المسبّب منه.
ولك أن تقرّر ورود الاستصحاب على الاصول الثلاث الباقية : أنّ مؤدّى الاستصحاب في مجاريه حكم ظاهري مجعول للشاكّ في بقاء الحالة السابقة بعد اليقين ، فإذا حصل العلم به بمقتضى أدلّة الاستصحاب خرج المكلّف عن كونه جاهلا بالمعنى المأخوذ في مجاري الاصول الثلاثة ، أعني الجاهل بالحكم الإلزامي المؤثّر في العقاب على مخالفته واقعيّا كان أو ظاهريّا ، والجاهل بالمكلّف به بعد اليقين بأصل التكليف ، والجاهل بكون حكم الواقعة المعلوم إجمالا هو الوجوب أو الحرمة الموجب للتحيّر بين الفعل والترك ، فليتدبّر.
لا يقال : العكس أيضا ممكن ، لأنّ موضوع جميع الاصول الأربع هو الجاهل لا غير.
لأنّا نقول : إنّ موضوع الاستصحاب هو الجاهل ببقاء الحكم الواقعي الّذي هو الحالة السابقة ، وموضوع سائر الاصول هو الجاهل بالحكم الشرعي واقعا وظاهرا ، والاستصحاب المفيد للعلم بالحكم الظاهري رافع للجهل بالحكم الظاهري المأخوذ في موضوع سائر الاصول ، فلا يعقل ورودها على الاستصحاب إلاّ في الصورة المذكورة.
وربّما يستشكل في تقديم الاستصحاب على أصالة البراءة في الشبهات الموضوعيّة بملاحظة رواية عبد الله بن سنان الّتي استدلّ بها جماعة على أصل الإباحة ، الّتي هي معارضة لاستصحاب حرمة التصرّف في الأشياء المذكورة فيها ، كقوله صلىاللهعليهوآله : « كلّ شيء حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب عليك ولعلّه سرقة ، والمملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه وقهر فبيع ، أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غيره أو يقوم به البيّنة » (١).
ويدفعه : أنّ الاستصحاب الموجود في الأشياء المذكورة يوافق أصالة الإباحة المستفادة من الرواية ، وهو أصالة عدم السرقة ، وأصالة عدم بيع المملوك نفسه ، وأصالة عدم القهر عليه في بيعه ، وأصالة عدم تحقّق نسبة الاخوّة بين الرجل وامرأته ، وأصالة عدم
__________________
(١) الوسائل ١٢ : ٦٠ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.