ويظهر بالتأمّل فيما ذكر أيضا أنّه ليس قسما من الأصل الّذي يعبّر عنه بأنّ عدم الدليل دليل على العدم كما توهّمه بعض الأعلام ، لأنّ هذا الأصل ـ إن قلنا به ـ متعرّض للواقع بنفي الحكم المشكوك فيه بحسب الواقع ، جار في موارد التكليف وموارد الوضع معا ، ولذا قد يخصّ بالوقائع الّتي يعمّ بها البلوى ، لعدم دلالة عدم الدليل فيما لا يعمّ به البلوى على العدم.
كما يظهر أيضا وجه تقديم الدليل على أصل البراءة ، كما ينبّه عليه قولهم : « إنّه دليل عند عدم الدليل » ، وذلك من جهة عدم معارضته للدليل ، فإنّه بموضوعه ناطق بأنّي لا أدري أنّ الحكم الواقعي أيّ شيء؟ والدليل بكشفه عن الواقع ناطق بأنّ هذا هو الحكم الواقعي ، فيكون تواردهما على الواقعة نظير توارد أدري ولا أدري على موضوع واحد ، وعدم التعارض بينهما باعتبار عدم كون النفي في السالبة نفيا لما أثبته الموجب في الموجبة ضروريّ ، بل موضوع الأصل على ما عرفت من دخول الشكّ فيه يرتفع بورود الدليل على الحكم الواقعي ، على معنى خروج المورد عن المجهول الحكم أو عن المشكوك في حكمه الواقعي أو عمّا لم يعلم حكمه الواقعي بواسطة العلم بحكمه الواقعي الحاصل من ذلك الدليل ، فيتعدّد الموضوع.
ومن المستحيل وقوع التعارض بين القضيّتين مع تعدّد موضوعيهما ، ولك أن تقول : بعد ورود الدليل لا مجرى للأصل بواسطة انتفاء موضوعه ، ليتكلّم في أنّه هل يعارض الدليل أو لا؟
وعليه ففي إطلاق التقديم أو الترجيح في هذا المقام نوع تسامح ، فما قد يوجد في كلمات غير واحد ـ ولا سيّما السيّد في الرياض ـ من إطلاق الخاصّ على الدليل والعامّ على الأصل ، ومن قولهم : يخصّص الأصل بالدليل ، أو يخرج عن الأصل بالدليل ، وما أشبه ذلك ليس على ما ينبغي ، لأنّ هذا كلّه فرع المعارضة وهو فرع اتّحاد الموضوع.
لكن هذا في الدليل العلمي واضح. وأمّا الدليل الغير العلمي فربّما أمكن فرض كون إطلاق الخاصّ عليه وإطلاق العامّ على الأصل على الحقيقة ، لكن لا في أنفسهما بل بملاحظة دليليهما ، فإنّ مؤدّى الأصل : أنّ ما لم يعلم حرمته مثلا بالخصوص فهو غير محرّم ، ومؤدّى دليل اعتبار الدليل الغير العلمي كخبر الواحد أو الشهرة : أنّ ما ظنّ حرمته بخبر الواحد أو الشهرة فهو محرّم ، وهذا أخصّ من دليل الأصل ، لأنّ ما ظنّ حرمته ، من أفراد ما لم يعلم حرمته فإذا حكم على الأوّل بالحرمة وعلى الثاني بعدم الحرمة كانا في