وأمّا ثالثا : فلأنّ الدلالة إن اريد بها ما يلازم الواقع لذاته بدوام مصادفته له فالإفتاء من جهته إفتاء بالحقّ لا محالة فيكون الأخذ به تقليدا في الحقّ لا غير ، وإن اريد بها ما لا يلازم الواقع لقبوله الخطأ واختلاف النظر بحيث احتمل في حقّ العامي الناظر فيه أيضا عدم إصابة الحقّ ، فالأخذ بمؤدّاه حينئذ يستلزم عدم الأمن من الوقوع في خلاف الحقّ بالاجتهاد ، وهذا ليس بأولى من التقليد في خلاف الحقّ.
ولو قيل : بأنّه إذا كان مجتهدا فهو معذور في خطائه ، قلنا : كلّما كان المجتهد معذورا في خطائه كان مقلّده في هذا الخطأ معذورا بالإجماع ، بل ربّما لا يكون المجتهد معذورا كما لو كان مقصّرا في اجتهاده وكان مقلّده معذورا.
وقضيّة ذلك أن يكون التقليد في خلاف الحقّ أهون من الوقوع في خلاف الحقّ بالاجتهاد.
ولو قيل : بأنّه إذا حصل له القطع بما فرض في المسألة من وجود الدلالة القاطعة فهو لا يجوّز في حقّ نفسه الوقوع في خلاف الحقّ حتّى لا يأمن في عمله من الوقوع في خلاف الحقّ بخلاف ما لو قلّد في ذلك.
قلنا : نفرض مورد النقض قبل الدخول في المسألة وإعمال النظر في الدلالة القاطعة الموجودة فيها بالفرض ، فهو حينئذ كما يجوّز في تقليده على تقدير البناء عليه كونه تقليدا في خلاف الحقّ إلتفاتا منه إلى احتمال خطأ المفتي ، فكذلك يجوّز في حقّه الوقوع في خلاف الحقّ التفاتا منه قبل العثور على الدلالة القاطعة احتمال عدم إصابة الواقع ، فهو حينئذ في اختيار كلّ من الأمرين لا يأمن من الوقوع في خلاف الحقّ ، فإن كان ذلك مانعا من اختيار التقليد وجب كونه مانعا من اختيار النظر أيضا وإلاّ فلا ، والفرق بين المقامين تحكّم واضح.
وأمّا رابعا : فلأنّ خوف الوقوع في خلاف الحقّ إنّما يصلح وجها للمنع من التقليد لو اعتبرنا فتوى المفتي في حقّ المقلّد من باب الطريقيّة الكاشفة عن الواقع بعنوان القطع لا من باب الموضوعيّة بالمعنى الّذي نقرّره ـ كما هو الحقّ ـ أو الطريقيّة الظنّية كما قيل.
وثانيها : أنّ قول المفتي وفتوى المجتهد بالنسبة إلى عمل المقلّد هل هو من الأمارات التعبّديّة الغير المنوط اعتبارها بحصول الظنّ بالواقع كالبيّنة واليد حتّى أنّه لو ظنّ المقلّد بخطأ المجتهد في الحكم أو دليله جاز له تقليده ، أو هي من قبيل الأمارات الاجتهاديّة