الجهة الثالثة
أنّ النظر بعد ما ثبت وجوبه يعتبر بلوغه حدّ الاطمئنان بل العلم بمعنى الاعتقاد الجازم المطابق ، ولا يكفي النظر المؤدّي إلى الظنّ مع إمكان العلم كما هو المعروف المشهور المدّعى عليه الإجماع مستفيضا ، ومرجعه إلى اشتراط القطع في اصول الدين وعدم كفاية الظنّ.
لنا في إثباته طريقان :
أحدهما : طريق العقل ، وهو : أنّ إزالة خوف العقوبة الّتي هي مناط حكم العقل بوجوب النظر أو بوجوب معرفة الله المقتضي لوجوب النظر لا تتأتّى إلاّ بالنظر المحصّل للعلم ، فإنّ الأمارات الظنّية الّتي منها أخبار الآحاد لعدم دوام إصابتها الواقع ليست مأمونة من الخطأ ومخالفة الواقع ، فلا يزول خوف العقوبة مع التعويل عليها إلاّ إذا انضمّ إليها أصل البراءة النافي للعقاب واستحقاقه على مخالفة الواقع من حيث كونه حكما عقليّا.
وقد عرفت أنّه لا يصحّ إلاّ بعد الفحص عن الدليل والعجز عن العلم.
وثانيهما : طريق الشرع من الإجماع والكتاب والسنّة.
فمن الأوّل : الإجماعات المنقولة المستفيضة القريبة من التواتر.
ومن الثاني : الآيات المانعة من اتّباع الظنّ المفيدة كون المرجع والمعوّل عليه في الشرعيّات هو العلم خرج منها الظنّ في الفروع بدليل ، كقوله تعالى : ( لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (١) و ( إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) (٢) و ( لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (٣) و ( وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ) (٤) ( ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (٥) ( وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (٦) وكونها عمومات مخصّصة ـ مع أنّ الأقوى حجّية العامّ المخصّص ـ لا يمنع من الاستدلال بها ، لأنّ العامّ المخصّص نصّ في المورد ومورد نزول الآيات اصول الدين ، مضافا إلى الآيات الآمرة بالعلم مثل قوله تعالى : ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ )(٧) وقوله تعالى : ( اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها )(٨).
والمناقشة في الاولى بأنّ المراد التثبّت على العلم ، لأنّه عليهالسلام كان عالما قبل نزول الآية
__________________
(١) الأسراى : ٣٦. (٢) البقرة : ١٦٩. (٣) الزخرف : ٨٦.
(٤) الجاثية : ٢٤. (٥) الأحقاف : ٤. (٦) النجم : ٢٨.
(٧) محمّد : ١٩. (٨) الحديد : ١٧.