هذه العبارة : مأَوْتُ الجِلْدَ ومَأَيْتُه ومأَّيْتهُ ، فتَمَأَّى ، ولو لم يك فى ذلك إلا ذكرى البسيط ، والذى هو مَأَوْتُ ومَأَيْتُ ، وحملى عليه الانفعال المتركِّب بالزيادة ، الذى هو تمأَّى ، وإنما أعنى بالانفعال هنا : التفَعُّل ، وآثرته ، لأنها عبارة المنطقيين. وكقوله التَّناوُش : التناوُل ، والنَّوْش منه ، نُشْت أنوش. وقلت أنا مكان ذلك : نُشْتُ الشىءَ نَوْشا تناولته ، والتَّناوُش من النَّوْش : كالتناوُل من النَّوْل ؛ أوَلا ترى إلى اختصار هذه العبارة وإجادتها ، وحملى مُرَكَّبَها على بسيطها؟ إلى غير ذلك ، مما لو تقصيّته لطالت به خطبة كتابى ، وأكثَرَ المتدَرّسون عليه عِتابى ، ولكنى أقتصر من ذلك على التمثيل ، مُغْنِيا به عن التفصيل.
وأما ما فى كِتاب « الإصلاح » و « الألفاظ » ، وكتب ابن الأعرابىّ ، وأبى زيد ، وأبى عُبيدة ، والأصمعىّ وغيرهم ، من أمثال هذا الذى وَصَفت ، فأكثرُ من أن يحصى مَدَدُه ، أو يُحْصَر عَدَده ، وهل يقوم بانتقاد هذا النوع إلا مثلى ، من ذوى الحِفْظ الجليل ، والاضطلاع بعلم النحو وصناعة التحليل ، وإن كنت بين حُثالةٍ جَهِلت فضلى ، وأساء الدهر فى جمعهم بمثلى ، وهل ينفع اليائسَ من الحياة بُكاه ، أحمد الله على كلّ حال ولا أتَشَكَّاه.
ومن غريب ما تَضَمَّنَهُ هَذَا الكتابُ ، تمييز أسماءِ الجموع من الجموع ، والتنبيهُ على الجمع المركَّب ، وهو الذى يسميه النحويُّون جمعَ الجمع ، فإن اللغويِّين جَمّا لا يميزون الجمع من اسم الجمع ، ولا يُنَبِّهون على جمع الجمع. ومن الأبنية ما يجوز أن يكون جمعا ، وأن يكون جمع جمع ، وذلك أدقّ ما فى هذا الجنس المُقتضِى للجمع ، فإذا مَرَرْنا فى كتابنا بمثل هذا النوع من الجمع ، أعْلَمْنا أيُّهما أوْلى به : الجمعُ أم جمع الجمع ، كقوله تعالى : فَرُهُنٌ مَقْبُوضَةٌ. فهذا إما أن يكون رَهْن ، كسَحْل وسُحُل ، وسَقْف وسُقُف ؛ وإما أن يكون رَهْن كُسِّر على رِهان ، ثم كسِّر رِهان على رُهُن ، فيكون على هذا رُهُن جمع جمع ، لأن الجمع إذا كان على شكل الواحد ، ثم كُسِّر ، فحكمه أن يكسَّر على ما كُسِّر عليه الواحدُ المُشاكِلُ له فِى البناء ؛ ألا ترى أن أَفعُلاً نحو أَوْطُب ، لما كُسِّر قيل أَوَاطِب (١) ، كما قيل فى جمع أَبْلُمٍ (٢) ، وهى لغة فى أبْلَمٍ أبالم ؛ لأن أوْطُبا بزنة أَبْلُمٍ ؛ وإذا اتفقت العِدَّتان فى الجمع والواحد ، وإن اختلفت الحركات ، أو اختلف بعضُها ـ فحكمها فى الجمع سواء ، وذلك نحو : أسْقِيةٍ وأساقٍ ، وأَسْوِرَةٍ وأساوِر ، شَبَّهه سيبَوَيه بأَنْمُلَة وأنامِل ، حين لم يجد فى الواحد أَفْعِلة ، فلم يجد شيئًا أقرب إليه من أَفْعُلَة ، فإذَا كان ذلك فيما يختلف بعض حركاته ، كان فيما يتفق نحو أَوْطُبٍ وأَبْلُمٍ أجدرَ أن يتفق فى الجمع ؛ فكذلك رِهان أعنى
__________________
(١) الوَطْب : سقاء اللبن والجمع : أوطب وأوطاب ووطاب.
(٢) الأبْلَم : خوص المُقْل ، والمُقْل : حمل الدوم ، واحدته مقلة والدوم شجرة تشبه النخلة فى حالاتها.